أدرك أن مفهوم الحاكمية في الإسلام أشبع بحثاً ودرساً، ولعله كان الموضوع الأخطر الذي شغل المسلمين من زمن الخوارج والقرامطة إلى زمن عبد الناصر وما تلاه، حيث امتلأت السجون بمن ألقي القبض عليهم متلبسين بالدعوة إلى (الحاكمية لله وحده) لأن هذه الدعوة حرّضت على قتال من لا يؤمنون بها، ودعت إلى إسقاط أنظمة الحكم التي لا تستمد شرعيتها من حكم الله، وكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي ليست لها شرعية دينية أو شعبية، فقد تم استيلاء كثير منها على الحكم بالغَلَبة، وبعضها شرع لنفسه السيادة عَبْر انتخابات صورية وأعلن الديمقراطية شعاراً ولكنه استبد بالحكم وحده، وأقام مجالس نيابية شكلية، لكن الدعوة إلى الحاكمية لله ألغت في بعض مفاهيمها حق البشر عامة في الحكم، واعتبرت التشريعات التي يتواضع عليها الناس لتنظيم حياتهم خارجة عن حكم الله، وهي مدعاة الشرك والكفر.
وساعد على انتشار الفكرة ما وقع في كثير من الدول الراهنة من فساد واستبداد، لكنه لم يكن مسوغاً لاتهام المجتمعات كلها بالجاهلية. ومفهوم الحاكمية لله قديم ظهر في الديانات الوثنية التي نسبت للحاكم دعماً من قوة سماوية، أو اعتبرت الحكام آلهة، لكن الظهور الأوضح جاء في سفر صموئيل الأول الذي كُتب في القرن العاشر قبل الميلاد كما يقال. ثم تطور مفهوم الحق الإلهي في الحكم حتى ظهر جلياً مع المسيحية التي أعلنت أن الله منح سلطته للحاكم، وقد حكم ملوك أوروبا في العصور الوسطى ضمن معتقد الحق الإلهي في الحكم.
ولئن كان الرسول محمد ﷺ قد حكم بتفويض إلهي، فإنه أسس دولة مدنية في يثرب وأطلق عليها اسم (المدينة) التي تضم مسلمين ومسيحيين ويهوداً ومشركين أو وثنيين لم يدخلوا في الديانات السماوية، ووضع وثيقة المدينة المنورة ضِمن رؤية لمجتمع متعدد، حتى بدت الوثيقة اتفاقية عقد وطني حول دفاع مشترك ومصالح مشتركة.
وحين تُوفي رسول الله، لم يورث الحكم لأحد من صحابته، بل كانت هناك مبايعة معلنة، وبدا الصراع حولها صراعاً سياسياً بين فرقاء وعصبيات ولا شأن للدين فيه، وحين انتخب أبو بكر لم يسمّ نفسه خليفة الله، بل كان خليفة رسول الله، ثم انتشر مفهوم أمير المؤمنين، وكان السائد أن تكون طاعة المسلمين للخليفة أو الأمير ما أطاع الله فيهم، فهو يحكم باسم الله، ويُحرم ما حرّم الله، ويحلّ ما أحل، وفي شؤون الدولة كانت الشورى هي المرجعية حتى في حياة الرسول محمد ﷺ فقد كان المسلمون يسألونه حين يصدر حكماً أو رأياً (أهو الوحي يا رسول الله؟) فإن قال إنه وحي من الله، سمعوا وأطاعوا. ولكنه كثيراً ما يقول (بل هو الرأي والمشورة)، ومع أن قوله الشهير (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) جاء في موضوع تأبير النخل، إلا أنه بالقياس يشكّل قاعدة للفصل بين الدين وبين أمور لا يتدخل الدين فيها مثل الزراعة والصناعة وسواهما من تفاصيل احتياجات المجتمع القائمة على خبرات أهل الاختصاص، والقابلة للتطور ما دامت خارجة عن الثوابت وخاضعة للمتغيرات في الحياة.
أما الثورات العلمانية في أوروبا فقامت لتفصل الدين عن الدولة، وتعلن أن الشعب هو مصدر السلطة التي كانت الكنيسة تسيطر عليها سيطرة كاملة، وتملك حق منح الشرعية للحاكم باسم الرب. ولقد واجهت الدولة الإسلامية التي ظهرت في القرن السابع الميلادي مفهوم الحاكمية لله، منذ الصراع حول الحكم بين علي كرم الله وجهه، وبين معاوية، وحين طلب المتصارعون على السلطة إرجاع الأمر إلى القرآن الكريم ليفصل بينهم، قبل الجميع، ولكن علياً رأى في الأمر خدعة (فكتاب الله صامت لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال) ولقد تمسّك الخوارج بمفهومهم للحاكمية، واعتبر علي (كرم الله وجهه) أن قولهم هو (كلمة حق أُريد بها باطل) ولم ينكر عليهم كونها كلمة حق، ولكن مفاهيم الحاكمية تختلف في التفسير والهدف.
ولقد تمسّك كثير من علماء وأئمة المسلمين بشعار الحاكمية لله، ومن أبرزهم ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، وفي العصر الحديث أعلن هذا الشعار أبو الأعلى المودودي ومن ثم رفع الشعار سيد قطب في كتابه الشهير (معالم في الطريق) ويرى الباحثون أن هذا الشعار أسّس لظهور ما سمي بالإسلام السياسي، حيث صنعت هزيمة حزيران (النكسة) بيئة من اليأس والإحباط بعد السقوط المدوي للدولة القومية وانهيار الثقة بالشعارات الرنانة التي ظهرت قبل الهزيمة، وهذا ما دفع كثيراً من الشباب للعودة إلى الدين يتلمسون فيه طريقاً إلى استعادة حضورهم كأمة لا تقبل الهزيمة، وقد سُمّيت تلك الحقبة بالصحوة، ولكن سُرْعان ما ظهر التشدّد والعنف في بعض الحركات الإسلامية، حتى وصل الأمر إلى صراعات دموية بين تلك الجماعات وبين السلطات الحكومية. وللحديث بقية.