يرى كثير من الباحثين أن نقطة البداية الجادة لعصر النهضة العربية كانت في الصدام المباشر مع الغرب حين غزا نابليون مصر (1798-1801)، ولم تكن هذه الحملة هي الصدام الأول بين قلعة الإسلام (كما كانت تسمى مصر) وبين فرنسا، فقد سبقت حملةَ نابليون حملتان كانت الأولى عام1221 والثانية عام 1250 م ، وفي الثانية تمكن المسلمون المصريون من أَسْر ملك فرنسا لويس التاسع وسجنه في دار (ابن لقمان القاضي).
ولا بد لنا حين نذكر هذا الحدث الجلل من أن نشيد بدور امرأة أنقذت مصر ومكَّنت المصريين من مواجهة هذه الحملة الفرنسية الصليبية (التي ساهم فيها الإنكليز أيضاً) وهي ”شجر الدر“ التي أخفت نبأ وفاة زوجها (السلطان الصالح أيوب الذي كان يقود جيش المصريين على الرغم من مرضه وشيخوخته) كَيْلا يحدث انهيار عسكري، لكن الفارق بين الحملتين الفرنسيتين وبين حملة نابليون أن الحملات الصليبية كانت تحمل رايات الصليب، وكانت دوافعها دينية محضة، وكان الهدف الرمزي فيها هو الاستيلاء على القدس وإنهاء حضور الإسلام في الشرق.
أما حملة نابليون فقد حملت رايات التنوير والحداثة وأفكار الثورة الفرنسية. وقال نابليون للمصريين إنه قادم ليحررهم من طغيان المماليك، وبعد دخوله مصر عبّر عن إعجابه العظيم بالإسلام، بل أشاع أنه اعتنق الإسلام، وتقرّب من علماء الأزهر الذين تعاملوا معه بحذر كي يخففوا من وطأة الاحتلال، وكانت تلك صدمتهم الأولى بعد الحملات الصليبية مع شعارات غربية أوروبية نهضوية.
كان نابليون قد اصطحب معه علماء كباراً، ولعل إنجازهم الكبير كما يقول روبرت سوليه هو تأسيس علم (المصريات) فقد كشفوا للعالم تاريخ مصر القديم، الذي كان يهمله المصريون لأنهم اعتبروه حضارة وثنية. وقد جلب نابليون المطابع بالعربية والفرنسية وسارع إلى إنشاء مجمّع علمي على غرار المجمع الفرنسي، وأسس صحفاً، وشكل فريقاً من العلماء لكتابة الموسوعة الكبرى بعنوان (وصف مصر) ولن أطيل الحديث عن الجانب العلمي والحضاري الذي استعان به نابليون كَيْلا يجعل حملته مشابهة للحملات الصليبية، لكن المشهور عنه أنه كان يحرص على التعبير عن احترامه للإسلام، إلى حد أنه كان يحضر المجالس الدينية الإسلامية ويحتفي بذكرى المولد النبوي، ويشارك في جلسات الذكر الصوفية.
كان الرد الإسلامي على الصدمة حضارياً وعقلانياً، فقد رفض المسلمون الاحتلال الفرنسي لبلادهم، ولم يخدعهم تقرب المحتل من دينهم، ولكنهم لم يرفضوا العلوم التي كان أجدادهم مؤسسين فيها، ومن المعروف أن الشيخ عبد الله الشرقاوي كان الشيخ الثاني عشر للأزهر، وقد تحول إلى بطل شعبي؛ لأنه قاد عدة ثورات ضد المماليك، وحين جاء نابليون بحملته أراد أن يستعين بشيوخ الأزهر فشكل ديواناً استشارياً ضم تسعة شيوخ من الأزهر برئاسة الشيخ الشرقاوي، وأمر نابليون عساكره بتأدية التحية العسكرية لشيوخ الأزهر، وحين استقبلهم أمر بإلباسهم الوشاح الفرنسي وعليه ألوان العلم الفرنسي على أكتافهم، طرح الشيخ الشرقاوي الوشاح على الأرض وداس عليه أمام نابليون الذي غضب ولكنه كتم انفعاله، وقال ”هذا مجرد تعبير عن احترامي لكم“ فقال له الشيخ: ”هذا ينزل قدرنا عند الله وعند أهلنا المسلمين“، واكتفى نابليون بقوله ”الشرقاوي لا يصلح للرئاسة“.
وسرعان ما قاد الشرقاوي مع شيوخ الأزهر ثورة القاهرة ضد الاحتلال الفرنسي، وربما يكون أهم تعبير عن رفض هذا الاحتلال هو ما فعله طالب أزهري هو البطل السوري سليمان الحلبي حين قتل الجنرال كليبر الذي خلف نابليون في حكم مصر.
المهم أن شيوخ الأزهر الذين قاوموا الاحتلال، لم يغمضوا أعينهم عن المحاسن التي جلبها نابليون، وعلى صعيد الموقف من المعرفة نذكر صيحة الشيخ حسن العطار الذي رفض زعم نابليون بأنه جاء ليخلص مصر من الظلم، لكنه سرعان ما تعلَّم الفرنسية وقال قوله الشهير: ”إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها“، وقال أيضاً ”مَن سَمَتْ هِمّته به إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم“.
ولقد تولى الشيخ العطار رئاسة الأزهر بعد رحيل الفرنسيين، فأحدث حركة إصلاح واسعة في التعليم، وأدخل فيه ما سمي بـ ”العلوم البرانية“ وهو الذي أوصى محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا لتعلمه، ونذكر أن أشهر الطلبة الذين أوصى الشيخ العطار بأن يبعثوا إلى باريس وهم كثر، كان رفاعة الطهطاوي.
ولقد كتب الباحثون كثيراً عن الجانب التنويري من حملة نابليون، وحين رأى بعضهم أنها بداية عصر النهضة العربية، والخطوة الأولى نحو عصر الحداثة، رأى آخرون أن الحداثة كانت ستأتي ولو متأخرة، وقال المتهكمون: سيبدو عجيباً أن نؤرخ بداية تاريخية لعصر دخول المارينز إلى العراق (مثلاً) فالاحتلال يبقى مرفوضاً ولا يجوز لأمة أن تجد له مبررات إيجابية.
ويبقى من الطريف أن المفكر العربي محمد عابد الجابري قال إن بداية عصر النهضة كان مع قيام الحركة الوهابية التي سبقت الثورة الفرنسية باثنين وأربعين عاماً، وهو يراها ثورة ضد العثمانيين، حاربت البدع وحاولت تنقية الإسلام، لكن مفكرين آخرين يرون أنها بالغت في التشدد. ويخطئ من يعتقد أن الإسلام رفض الحيوية الفكرية، فهو دين يدعو إلى التفكير والتأمل والتبصّر، وهذا ما فهمه الأوائل الذين أسسوا علم الكلام، وعلم التوحيد وعلم أصول الدين، وقدموا العقل على النقل.
لكن الإسلام قاوم الإلحاد، وهو نقيضه بالطبع، وقد خصه جمال الدين الأفغاني برسالته الشهيرة ”في الرد على الدهريين“ التي أشرف على ترجمتها الشيخ محمد عبده، لكن الإلحاد ليس فكراً حديثاً، بل هو قديم قدم الإيمان، وحتى قبل نزول الأديان، إلا أن عصر الحداثة وحالة التفاعل مع الغرب نشرت أفكار العلمانية الأوروبية في العالم الإسلامي بقوة في نهايات القرن التاسع عشر، لكنها لم تقضِ على الإسلام بل حفزته إلى التحديث في عَقْلَنة النص، دون الخروج عن ثوابت الدين الأساسية، وهذا ما كان جوهر فكر الشيخين، الأفغاني ومحمد عبده، في دعوتهما إلى الأخذ بأسباب المدنية المعاصرة دون مجاراة الفلسفات المادية أو العدمية.
لكن الفكر العربي تحول إلى بذل جهد عقلي أعمق في محاولة التوفيق بين أسباب المدنية المعاصرة وبين الإسلام ونصوصه، ولم يكن هذا الجهد حديث عهد، فقد اشتغل فيه الفارابي وابن ماجة وابن رشد وأمثالهم، فأما المحدثون فقد مضوا بعيداً، وحسبنا أن نذكر منهم (مثالاً) محمد أركون الذي دعا إلى التمييز بين الحداثة المادية والحداثة العقلية، وكان يقصد التمييز بين تحديث الوجود اليومي للبشر، وبين تحديث موقف الفكر البشري من مسألة المعنى أو فهم الوجود أو رؤية العالم، وهو يرى أن الحداثة موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، وأمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع، وهذا ما سنتابع الحديث فيه في مقالنا القادم.