كان الامتحان الكبير الذي واجه الإسلامَ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، هو ما عرف باسم المسألة الشرقية، وكانت تعني تلك التحالفات الغربية لاقتسام دولة الإسلام الكبرى (العثمانية) التي سُميت (الرجل المريض) والمُضمَر في التسمية (رجل الإسلام المحتضِر) وقد بالغ المتفائلون من الغرب في اعتقادهم بأن موته سيعني نهايةَ الإسلام.
ولقد اختفى الإسلام حقاً أكثرَ من نصف قرن في تركيا بعد أن قام أتاتورك بإعلان نهاية الدولة العثمانية، وكان قد كسب شعبية ضخمة بقيادته للحركة الكمالية وانتصاره على اليونان 1922، وتمكُّنه من قيادة ثورة شعبية أنهى فيها ما حدث من تقاسُم الحلفاء للأراضي التركية حيث احتل الفرنسيون (مرسين وأضنة) والإيطاليون (أنطاكية وكوشا داسى وقونية) واحتل اليونانيون (القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى تراقيا ).
كان توجُّه أتاتورك للعلمانية قد ظهر في بداية حكمه، وقد قام عبر البرلمان التركي TBMM بتعديل مهم في الدستور بعدما تم حذف مادة تقول (دين الدولة الإسلام) كما ألغيت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية.
كانت دعوات العلمانية والليبرالية قد ظهرت في الدولة العثمانية من منتصف القرن التاسع عشر، ثم تجلَّت في ظهور حركة (الاتِّحاد والترقِّي).
لقد كان ذلك أخطرَ امتحان واجه الإسلام في مطلع القرن العشرين، وقد رافقه تعديلاتٌ دستوريةٌ لاحقةٌ؛ منعُ ظهورِ أية أحزاب أو حركات تحمل طابعاً دينياً، وتم إعلان حيادية الدولة أمام الأديان، وكُلّف الجيش بحماية العلمانية. ولقد بلغت هذه الحماية ذروة من الصرامة جعلت المسلمين الأتراك المتمسكين بإسلامهم يضيقون بها، ولاسيما حين ظهرت قرارات تمنع الأذان باللغة العربية، حيث اعتبر عصمت إينونو رئيس الوزراء آنذاك رفع الأذان بالعربية جريمة يعاقب مرتكبها بالسجن والغرامة، والمفارقة أن أوروبا لم تمنع الأذان في دولها بالعربية، كذلك لم يمنع إينونو رفع الأذان بالإنكليزية أو الفرنسية أو أية لغة أخرى وإنما حصر المنع بالعربية وحدها.
وقد زاد غضب الأتراك المسلمين حين قام الجيش بانقلاب عسكري في 17/5/1960 وتم إعدام علي عدنان مندريس رئيس الوزراء الذي كان من دعاة العلمانية والديمقراطية، لأنه سمح برفع الأذان بالعربية، وقد سمَّاه الأتراك (شهيد الأذان) وكان مندريس قد سمح بتعلم العربية وقراءة القرآن الكريم في المدارس (وهي مطالب شعبية) لبَّاها رئيس علماني ديمقراطي فعُوقب هو وبعض وزرائه بالإعدام.
لقد كانت المبالغة في تحوُّل العلمانية من الحياد أمام الأديان إلى إظهار العداء وإلى اضطهاد المسلمين ومحاصَرة حقهم في الاعتقاد والتعبير وممارسة شعائرهم قد أحدثت شروخاً في المجتمع التركي وأغلبيته من المسلمين، وقد ظهرت في نهاية القرن العشرين عدة أحزاب تركية كانت توجُّهاتها إسلامية لكن ستارها ديمقراطي وتنموي، ودخلت البرلمان، وخرج الإسلام من عنق الزجاجة بعد عقود من الحصار .
ويبدو أن الحُكّام العرب قد أفادوا من التجربة التركية العلمانية، فلم يفعلوا ما فعلت من منع الأذان أو الاعتقاد الديني أو التعبير عنه، ولم تكن العلمانية مُعلَنة في دساتيرهم، لكنهم وقفوا ضد الحركات الإسلامية التي كانت تسعى إلى السلطة وكان الفضاء العربي متسعاً لحضور الإسلام الشعبي المنسجم مع حراك البشرية وتطوُّر قيمها ضِمن حدود أخلاقية تقبل الآخر، وتُحاوره، وتَصطَرِع معه حين يمسّ عقائدها، لكنها لا تمنعه من ممارسة شعائره.
وقد بقي المتشددون يتمسَّكون بمواقف خاصة بهم، مثل تحريم الموسيقى والغناء والنحت والتصوير، وسوى ذلك مما قد يصل إلى رفض الحضارة الغربية كلها، لكن المعتدلين كانوا أقوى حضوراً، وأكبر تأثيراً، وبعضهم كان يحافظ على موقع في المنتصف بين تعاليم الدين وبين المتغيرات المعاصرة.
ومع ظهور حركات متطرفة لبست لبوس الإسلام لتحقيق مآرب سياسية وسلطوية وصل الصراع إلى حروب راح ضحاياها آلاف من الناس، وكثير من هذه الحركات مصنوع أصلاً لتشويه الإسلام مثل تنظيم "داعش" الذي كانت مهمته صرف الأنظار عن الأهداف النبيلة لثورات الشعوب العربية الداعية للحرية والكرامة الإنسانية والديمقراطية، وتمكين الدكتاتوريات من اختراع سردية كاذبة تدعي أنها تواجه الإرهاب وتحاربه، وبعض الحركات واجه التطرف المقابل بتطرف أشدَّ، وكان ظهور هذه الحركات والتنظيمات امتحاناً جديداً للإسلام الذي بات مُطالَباً بأن يعلن براءته مما اتُّهم به حين اعتُبر المرجعَ الفكريَّ لهذا التطرف المَقِيت.
كان على الإسلام أن يدافع عن وسطيته واعتداله وسماحته ويُسْره، أمام خصمين بل عدوَّيْنِ، أولهما فريق الداعين إلى بناء عالم بلا إسلام وإلى الصراع الحضاري، وثانيهما التطرف العلماني الذي استدعى تطرُّفاً إسلامياً.
ولقد كان الإسلام وريث صراعات المسألة الشرقية التي ما تزال راهنة، وربما يكون بعض شبابنا يجهلون تاريخها المُضمَّخ بالدماء، مما يدعوني إلى تلمُّس بعض جذورها التاريخية في حديث قادم.