بالغ المؤرخون حين أطلقوا اسم عصر الانحطاط على القرون التي تلت سقوط الدولة العباسية، فضاع حق كثير من المفكرين والمبدعين والمخترعين الذين ظهروا في تلك القرون؛ لأنهم لم يجدوا بين أحفادهم بيئة حاضنة وَفِيَّة تعطيهم حقوق مكانتهم العلمية والإبداعية، وكان من الظلم الذي استكان له كثير من مثقفي العرب والمسلمين، أنهم قبلوا بوَصْم تلك العصور بالانحطاط حسب توصيف بعض المستشرقين، لمجرد أن الشعر العربي تراجَع عن السوية السابقة التي برز فيها المتنبي وأبو تمام والبحتري وأبو العلاء ومَن في سَوِيَّتهم .
صحيح أن مراحل سقوط بغداد بيد المغول وانتقال الحكم إلى سلاطين وملوك وأمراء من غير العرب، والغزو الصليبي الذي دام قرنين ونيفاً، وظهور دول المماليك ومن بعدهم العثمانيون قد أثرت في سَوِيَّة فن الشعر؛ لأن هؤلاء الحكام الأغراب لا يعرفون العربية، ولا يستطيعون تقدير المواهب الشعرية كما كان يفعل خلفاء بني أمية أو بني العباس، لكن هذه الظاهرة جعلت مبدعي الأمة ينصرفون عن الشعر إلى العلم، وإلى التخصص في ميادين كان قد أسَّس لها الأمويون وتابعها العباسيون ثم دعمها المغول والمماليك والعثمانيون، لأنها تُسهم في تمكين دولهم، وتمنحها تقدُّماً، ولعل قصة نصير الدين الطوسي مع هولاكو (وهو عالم وطبيب وفلكي فارسي شيعي، إسماعيلي انتقل إلى الاثنا عشرية) تُعتبر قصة مفتاحية في حرص الغزاة على الإفادة من العلماء، فقد كاد هولاكو أن يقتل الطوسي لكنه حين عرف أنه عالم فلكي وطبيب قرَّبه منه، واستخدمه مع علماء الفلك المسلمين القادمين من بغداد ودمشق في بناء أهمّ مرصد فلكي في ذاك العصر، وهو مرصد (مراغة) الذي يُعتبر أول أكاديمية علمية بالمواصفات المعاصرة، وضم في مكتبته الأكاديمية نحو أربعمائة ألف كتاب.
ولا بد من الاعتراف بأن الأمة العربية انهارت بسبب الحروب التي شنها المغول والصليبيون، لكنها لم تمت، وقد أتاح الانتماء الإسلامي ظهور قادة ليسوا من العرب، لكنهم كانوا مخلصين للدين، من أبرزهم عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، وقطز وبيبرس وحشد من القادة العسكريين الذي شكلوا جيوشاً قوامها عربي ضخم، قاومت الاحتلال وتمكنت من تحقيق نصرين متتاليين في معركتين حاسمتين، هما حطين وعين جالوت، وسيكون من الظلم أن يوصف بالانحطاط عصر تمكنت فيه الأمة من هزيمة الصليبيين والمغول معاً، والمفارقة التي يتجاهلها بعض الباحثين هي انتشار المدارس والمكتبات، وتوسُّع الدولة (في عهد بيبرس مثلاً) وتحقيق تقدُّم في العلوم التطبيقية، وحسبنا مثالاً تقدُّم الطب وظهور عالم كبير هو (ابن النفيس) مع كوكبة من الأطباء الكبار في سورية ومصر شكَّلوا نقابة أطباء واحدة مقرها القاهرة، وبين أيدينا كتاب ابن أبي أصيبعة (طبقات الأطباء) الذي يقدم موسوعة نفيسة عن وقائع هذا التقدم حسب عصره .
إن ظهور أمثال ابن الهيثم والبيروني (أعظم عقلية في التاريخ) وابن سينا وابن الشاطر وابن حمزة المغربي والفارابي وابن سينا وكثير من كبار علماء المسلمين الذي أَثْرَوْا ثقافة البشرية وعلومها يجعل ما يسمى عصر الانحطاط عصراً ذهبياً في سِجِلّ الحضارة الإسلامية .
وتبدو المفارقة في اضطراب الآراء والتقويم بين فريقين، يرى أحدهما العصور الوسطى عربياً وإسلامياً عصور تخلُّف، بينما يراها آخرون عصور تقدُّم وإنجاز علمي وعسكري، وعصور تدوين وترجمة وفنون، بل إن بعض هؤلاء يرون تخلُّف الأمة في القرن العشرين أكبر بكثير، حيث توالت الهزائم والنكبات والانتكاسات وظهرت دول ديكتاتورية مستبِدَّة متناحرة أتاحت للغزاة أن يسيطروا على مقدّرات الأمة وقرارها وثرواتها، وباتت بعض الدول العربية تحتمي بالأجنبي، بل تستدعيه أحياناً للدفاع عن سلطتها أمام شعوبها.
وقد يرفض بعض الباحثين دمج العالمين (العربي والإسلامي) في عالم واحد، وقد يكون هذا الرفض مسوغاً في الحديث عن السلطة وعمن يمسك بها، لكن إنكاره في الحديث عن الشعوب والأمم وما يقدمون من علم وثقافة سيكون جهلاً مفضوحاً في خصائص الحضارات وتراكُمها المعرفي ونموها وصعودها التواصلي، وفيه تجاهُل لكون هذه الحضارة المشتركة جاءت بلغة عربية تمسكت بها كل الشعوب والأمم المسلمة حفاظاً على دينها وقرآنها .
واعتزازنا بجهد علماء مسلمين -ولاسيما أولئك الذين عاشوا جُلّ عمرهم في بلادنا العربية، وتخرجوا من مدارسها الكبرى مثل (بيت الحكمة مثلاً)- لا يلغي حق أممهم وشعوبهم في نسبتهم إليها، واليوم تتنافس عدة قوميات على نسب ابن سينا، وعلى نسب البيروني وسواهما، وهما ينتميان إلى الثقافة والحضارة الإسلامية التي كانت بَوْتَقة جُهدهم، وميدان تفوُّقهم، ولم يكن العرب حتى في جاهليتهم يغلقون أبواب ثقافاتهم على القادمين إليهم من شعوب أخرى، والجامعات الشهيرة قبل الإسلام (مثل دير الحيرة عند المناذرة ودير غسانة عند الغساسنة وأمثالهما كثير يعتمد على مزيج من ثقافة السريان والرومان والفرس والهند) ولكن نتاج هذه الحضارة عربي، وحسبنا أن نذكر أن المبدعين الكبار الذي تخرجوا من هذه الجامعات هم مشاهير عصرهم من العرب مثل المرقش الأكبر وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وأمثالهم .
وقد اتسع هذا التبادل الثقافي والفكري في عصر ظهور الإسلام، حيث كانت مكة (وما تزال مجتمع عولمة) وكذلك كانت المدينة المنورة، وكبر هذا التواصل حتى بلغ ذروة كبرى في عصر الفتوحات وإقبال الشعوب على الدخول في الإسلام حتى ملأ الدنيا ما بين آسيا وأوروبا، ووصل إلى غرب إفريقيا وعمقها وصارت العربية لغة العلم والثقافة عالمياً، وانصب جهد المبدعين من مختلف الشعوب في وعاء هذه الحضارة .
ولقد شعرت بسعادة بالغة حين زارني ذات يوم السفير الكازاخي يُعلِمني اهتمامَ بلاده بإحياء هُوِيَّتها الثقافية واتخاذ رجلين من عظماء بلادهم رمزيْنِ لهذه الهوية هما الفارابي والظاهر بيبرس وتاريخ الرجلين وجُهدهما كله كان في وعاء حضارتنا العربية والإسلامية، وهذه الهُوِيَّة التي سعت لها شعوب كثيرة في آسيا وجدت صورتها الأَزْهَى في إنتاج حضاري عربي إسلامي، ولقد أسعدني هذا الحضور في أذربيجان حين استعدنا أشعار نسيمي الآذري في حلب وأقمنا له احتفالاً واستحضرْنَا روحَ الشاعر فضولي في حفل غنائي بهيج لأشعاره في "باكو" .
هذه العلاقات المزدهرة في تاريخ العصور الوسطى عربياً وإسلامياً أصبحت اليوم روابط ثقافية متينة بين الشعوب تنهض على أسس الحضارة العربية الإسلامية.
لقد نجح الإسلام في العصور الوسطى في صدّ أخطر عدوانين على الأمة هما الغزو المغولي والغزو الصليبي، ولئن كان المغول قد دخلوا في الإسلام، فإن الفرنجة يفتحون اليوم قلوبهم وعقولهم للمهاجرين القادمين من بلاد الشرق والعرب والمسلمين، مما يجعلنا نأمل بتحقيق مُصالَحات تاريخية بين الشعوب، تنتهي معها كوارث الحروب.