أعتقد أن أهم امتحان واجَه العربَ والمسلمين هو اتهامهم بجريمة الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وقد قسمَت التاريخ إلى مرحلتين، ما قبل جريمة سبتمبر وما بعدها، كما أنها أحدثت انقساماً حادّاً بين مَن يرون أن هذه الجريمة عمل إرهابي قام به متطرفون إسلاميون يستحقون كل أنواع العقاب، وبين مَن يرون أن هناك جهة ما افتعلت هذه الأحداث تمهيداً لقيام الولايات المتحدة بغزو بلاد إسلامية يصعب على الولايات المتحدة إقناع شعبها بضرورة احتلالها دون تعبئة بالكراهية والحقد والحث على الانتقام، وهناك مَن صمتوا خوفاً من إعلان شكهم أمام عواصف الغضب الأمريكي، ولاسيما بعد إعلان الولايات المتحدة أنها ستعاقب كل مَن يؤيد أحداث 11 سبتمبر.
والمفارقة أننا وجدنا في الموقف العربي والإسلامي فريقين، أحدهما يعتبر ما حدث انتصاراً يزهو به، حتى إن بعضهم أطلق على الجريمة اسم (غزوة مانهاتن، أو غزوة نيويورك) وهذا الفريق لم يُعاقَب لأنه يؤكد الاتهام للمسلمين ومن الواضح أنه فريق شديد الصلة بأجهزة استخباراتية من مهماتها ترويج الاتهام، وثَمة فريق آخر لم يناقش تفاصيل الأحداث ولم يسأل عن سير التحقيق، وإنما قَبِلَ التهمة دون أية أدلة يراها، وبدأ يقدم الاعتذارات ويتخذ موقفاً أشد في تجريم المتهمين، وبقي فريق من الناس يستنكر عدم السماح للعرب والمسلمين بالمشاركة في التحقيق، ويشك في صحة الاتهام، وكنت شخصياً من هذا الفريق وما زلت لا أصدق أن مجموعة شباب من "تورا بورا" تعلموا قيادة الطائرات في خمسة أيام تمكنوا من السيطرة على فضاء نيويورك واخترقوا كل منظومات الدفاع في سماء مكتظة بالطائرات وسددوا نحو الهدف المعقد، وبدت النظريات التي قدمها المحققون أشبه بنكت سمجة، فقد اكتشفوا جواز سفر لأحد المتهمين وتبين أنه لشخص سعودي مُتوفًى من سنين، ثم اكتشفوا كتاباً في صندوق سيارة عنوانه (تعلم قيادة الطائرات في بضع ساعات) وسخر صحافيون كبار من الفبركات، حتى اضطر أحد كبار المحققين للقول: "حين تتعرض الولايات المتحدة لهجوم فلن ننتظر تحقيقاً حتى نعاقب المجرمين".
لقد سبق لي أن كتبت عدة مقالات بُعيد وقوع الجريمة، وكنت علمتُ أن الرئيس بوش غاب ساعات ومعه ديك تشيني، ولكني لم أعلم يومها أن ثالثهما كان برنارد لويس الذي اختفى معهما، وهو الذي وجد في هذه الجريمة فرصته التاريخية لدعم مشروعه العدائي القديم للعرب والمسلمين. لقد أعادت هذه الجريمة أهمية خاصة لكتاباته السابقة، كما أنها قدمت له موضوعاً مثيراً لمتابعة جهده الفكري والسياسي في إقناع القادة الأمريكان بضرورة الإقدام على غزو بلدان العرب، وكان لويس من أهم المحرضين على غزو العراق، رغم أنه أنكر ذلك بعد أن اعترفت الولايات المتحدة بأكذوبة اتهام العراق بوجود أسلحة دمار شامل لديه، وانكشفت المبررات السخيفة التي قدمتها للعالم، ولم تحقق الولايات المتحدة من هذا الغزو سوى تدمير العراق وتشريد شعبه، وارتكاب جرائم إبادة، وتسليم العراق لحلفاء الولايات المتحدة من أصحاب العمائم الإيرانية.
لقد كتب لويس كتابه (ما الخطأ الذي حدث؟) بعد 11 سبتمبر، وفيه تحدث عن خوف المسلمين من الحداثة، وقال: إن إسقاط النظام العراقي سيتيح انطلاقة تسمح بتحديث الشرق الأوسط، والمؤسف أن كتاب لويس هذا (ما الخطأ؟) شكَّل قاعدة ثقافية باتجاه الحرب على العراق كما يقول ميشيل هارش.
وفي كتاب لويس (جذور الغضب عند المسلمين) زرع فكرة خطيرة تقول "إن المسيحية والإسلام حضارتان متصادمتان إلى الأبد" ، ولم يتصدَّ لبرنارد لويس أحد كما تصدى له المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، لقد اعتبره إدوارد أحد قمم العداء للعرب والمسلمين، وقال: إنه يفيض عنصريةً وكراهيةً، ويصف الإسلام بأنه لا يتغير، ورأى إدوارد أن برنارد لويس لا يعرف شيئاً عن العالم العربي، وأن معرفته منحازة، ووصفه مرة بأنه ينطلق من الحقد والكراهية والاستعلاء على العرب والمسلمين ومن غياب النزاهة، ووصف مواقفه بأنها ديماغوجية قاصرة موفورة الجهل.
وتستدعي ذاكرتي عند الحديث عن أحداث سبتمبر وغزو العراق وقوع بعض المثقفين العرب في تحليلات وهمية، كتلك التي قدمها حسنين هيكل حين فسر ضرب العراق بأنه لا يستهدف العرب أساساً، فهي مجرد مصادفة تاريخية أن يتم اختيار العراق، فأما الهدف فهو إخافة الآخرين الكبار.
ومع أن هيكل استنكر حالة الذعر التي أصابت النظام العربي أمام ضراوة الغضب الأمريكي بعد جريمة سبتمبر، وأشار إلى خطورة التدخل الأجنبي الفظّ في صميم السيادة العربية، وطالب الأمة باستجابة الشجاعة للتحدي، وحذر من محاولات إقعاد همّة الشعب وتجريده من أهمّ أسلحته (وهي معنوياته وإحساسه بأنه قادر) واختلاق مبررات للانسحاب من التاريخ، فقد اعتبر الحملة الضخمة على العراق تجري على ما نسميه في المثل الشائع "الكلام لك فاسمعي يا جارة" والجارة هنا الصين واليابان وألمانيا بل والعالم كله، ولا أدري كيف يستقيم هذا التفسير؟!
والعراق المضروب لتخويف الأقوياء ضعيف جداً، ولا حول له ولا قوة بعد أن أنهكته السنون العجاف وجعلته أمريكا وبريطانيا يعيش في صندوق الحصار المغلق.
لقد استبعد هيكل مشروع الصهيونية الكبير وخُطط برنارد لويس وزميله صموئيل هنتغتون في إشعال الصدام بين الحضارات وتحطيم المسلمين وتفتيت بلدانهم، كما تجاهل رؤية بريجنسكي وكارتر وهما مع لويس من صاغوا إستراتيجية العداء للعرب والمسلمين.
لقد استعان الأمريكان بمن تمت تسميتهم (الأفغان العرب) لصدّ الاتحاد السوفياتي، وحين انتهت المهمة حاربتهم الولايات المتحدة، وتحوَّل اسمهم من جهاديين إلى إرهابيين، وكانت الذريعة جريمة 11 سبتمبر، كما كانت ذريعة احتلال العراق تهمة بوجود أسلحة دمار شامل تم التراجع عنها بعد انتهاء المهمة، وبعد عشرين عاماً من حرب ضد طالبان، انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، وسلمت الراية لطالبان، ربما كي تقف في وجه الصين كما وقفت في وجه الاتحاد السوفياتي، لكنني أتوقع أن الحكمة الصينية أعمق من أن تُجَرّ إلى صدام مع عامة المسلمين.
لن أقول إن الإسلام نجح في امتحان جريمة سبتمبر؛ لأن أعداد ضحايا الغزو الأمريكي في أفغانستان وفي العراق تفوق التوقعات، لكن عقلاء الولايات المتحدة ومثقفيها بدؤوا يُراجِعون ما حدث، وينفّرون من الحروب التي خاضتها بلادهم ضد المسلمين، ويتهمون قادتهم بأنهم هم مَن صنعوا "داعش"، والطريف أن أول مَن أعلن هذا الاتهام لمن سبقه، هو الرئيس السابق دونالد ترامب.