في حديثي السابق عن امتحان الإسلام أمام الفلسفة، لم أتوقف عند التفاصيل؛ لأنها تحتاج إلى مجلدات وموسوعات وهي متوفرة أمام الباحثين، وكان حسبي أن أقول: إن الإسلام لم يرفض أن يدخل الامتحان أمام الفلسفة، لكن هذا الامتحان لم يصل قط إلى نتيجة، وما يزال هذا الامتحان قائماً إلى اليوم وسوف يبقى مستمراً، وقد استعرضت أسماء أبرز المشتغلين بالفلسفة من علماء المسلمين، ولم أنكر أن المتشددين أخرجوا كثيراً من المتفلسفين من دائرة الدين، ومفتاح الفلسفة هو السؤال.
بينما نجد الإسلام يَنهى عن الأسئلة التي تناقش الروح والغيب، ومع أنه يدعو إلى التفكير والتدبير، لكنه يقوم على التصديق بما جاء في القرآن الكريم، وها هم أُولاء المسلمون يقولون بعد كل تلاوة من آيات القرآن (صدق الله العظيم).
ويصل هذا التصديق إلى حدود الإذعان التامّ حين يتعلق النص بالغيوب، وهو إذعان يحيل الإيمان إلى القلب وليس إلى العقل بالضرورة، وهذا ليس في الإسلام وحده، وإنما هو شرط الإيمان في كل الأديان، وحسبنا قصة ولادة السيد المسيح مثالاً على شرط الإيمان بالتصديق وبالطمأنينة فيه بالقلب.
وقد جعل الله القلب مستقراً للإيمان، قال تعالى: (مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلْإِيمان) وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟) وكثيرة هي الآيات التي تخص القلب بالإيمان، وهذا لا يعني إغفال العقل، فقد ورد قول: (أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟) نحو ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم.
لكن العقل يعجز عن فهم الغيب، وعن تصوُّر ما قبل وما بعد الحياة، وعن تفسير المعجزات، لكنه يعقل الأركان والأخلاق والقيم والعبادات والفقه والأصول والمقاصد، وكل ما هو متصل بالتجربة المادية والحواسّ وآليات الإدراك البشري، وهذه قابلة لأن تكون ميدان تجدُّد الفهم وتطوُّره.
ويمكن اعتبار الانفتاح الإسلامي منذ أواخر القرن السابع الميلادي على فلسفة اليونان أول صدمة فكرية واجهت المسلمين، وبات هَمُّ المشتغلين بالفلسفة منهم أن يبحثوا عن التوفيق بين الإيمان بالدين وبين الفلسفة التي تطرح أسئلة الوجود، وهذا ما استدعى جدلاً واسعاً بين مَن رفضوا الفلسفة مثل الإمام أبي حامد الغزالي الذي درس فلسفة اليونان ولكنه وجد فيها كثيراً من التهافت.
وهو الذي يستحق أن يُسمَّى فيلسوف الإسلام في عمق مناظراته الفلسفية التي تناولت نحو عشرين مسألة تتعلق بالمَاوَرَائيَّات، ورفضه محاولة الفلاسفة في إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواسّ الإنسان، وهذا ينافي في رأيه مفهوم الفلسفة أساساً، وقد فرَّق الغزالي بين علوم المنطق اليونانية الأرسطية التي قَبِلَها الإسلام، وبين تصوُّرات فلاسفة اليونان الميتافيزيقية التي ترفضها الأديان، ويقال: إن الغزالي تمكن من أَسْلَمة المنطق الأرسطي والتأصيل له قرآنياً.
وقد رد ابن رشد بعد عقود على كتاب (التهافت) بكتابه الشهير (تهافت التهافت) وكانت مأثرة ابن رشد الفلسفية الأهم هي كتابه (فَصْل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال) ويُعتبر هذا الكتاب أهمّ محاولة لإجراء مصالحة تاريخية بين الدين والفلسفة، فقد تجاوز تأثيره الإسلام إلى المسيحية حيث استلهم منه التنويريون الأوروبيون كثيراً من الأفكار لبناء عصر النهضة، وأبرزهم مارتن لوثر الأب الذي كان يعتقد بأن البشر لا يمكنهم تعلُّم أي شيء عن الله إلا من خلال الوحي.
وأعتقد أن الإمام الغزالي الذي تمكَّن من فَهْم الفلسفة اليونانية ونقدها، بدأ أهم حوار بين الفلسفة والدين في القرن الخامس الهجري، وهو الشافعي الأشعري المتصوف، وقد صار كتابه (إحياء علوم الدين) من أشهر الكتب الإسلامية التي مزجت الظاهر بالباطن، حتى قال بعض أنصاره (من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء).
ولقد بقي هذا الحوار (النكد – الحيوي) بين النقل والعقل، شاغلاً للمتفلسفين إلى اليوم، وقد استعاده النهضويون منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكانوا يبحثون عن وسائل وآليات لتجديد الخطاب الديني، وهنا لا بد من أن نتذكر كتاب محمد إقبال (تجديد الخطاب الديني) الذي حاول أن يخرج من عباءة الغزالي فلم يستطع، وكان كل المجدِّدين يُضطرون إلى إقحام الفلسفة في حديثهم عن الكون والإنسان والتجربة الروحية).
ولا يتسع المجال في مقال صحافي لاستعراض سيرة ومسار حركة التجديد، التي اعتبرها كثير من المجدِّدين سُنّة كونية وتكليفاً شرعياً، فضلاً عن كونها ضرورة لمواجهة التدفق الفلسفي الأوروبي الذي عصفت به فلسفات شتَّى، وظهرت فيه دعوات تهزّ عقائد المسيحيين وتنادي بفصل السياسة عن الدين، وكان تواصُل العرب والمسلمين مع الأوروبيين حميماً رغم كونه صدامياً على صعيدَي الفكر والسياسة، فالنخب العربية والمسلمة كانت شديدة التأثر بفلسفات الغرب، وشديدة الإعجاب بحالة التقدم العلمي الغربي، بينما العالم العربي والإسلامي يشهد نهاية الرجل المريض.
وقد ظهر جيل ضخم من المفكرين صاروا من المشاهير يستلهمون مما رُوي عن الرسول محمد (ص) قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) مما يجعل التجديد مطلباً شرعياً.
وهذا ما أرجو أن نتابع الحديث فيه.