على مدى مائة عام ونيِّف انشغل الفكر العربي بقضايا تجديد التراث العربي الإسلامي، واعتبره كثير من المفكرين عبئاً على العرب والمسلمين، وكانت أشهر المعالجات هي الدعوة إلى تنقية التراث والتخلص مما هو سلبي وخرافي فيه، وانتقاء ما هو عقلاني وجمالي ومتزن بوسعه أن ينسجم مع الحياة المعاصرة والتغيرات الحاسمة فيها، لكن المشتغلين في قضايا الفلسفة تعمقوا في دراسة التراث، واختلفت مواقفهم بين رافض للماضي برُمَّته، وبين باحث عن مصالحة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين راغب في تحويل التراث إلى طاقة إيجابية مع الدعوة إلى تغييرات جذرية في فهم التراث ذاته.
وبمناسبة رحيل المفكر الكبير الصديق حسن حنفي رحمه الله (وقد توفي يوم الخميس 21 /2021/10) أود أن أتحدث عنه حديث استذكار، وليس حديث حوار، فقد حاورته في عدة لقاءات تلفزيونية، وحين ترأست تحرير مجلة الإمارات الثقافية في أبو ظبي قبل بضع سنوات، دعوته للكتابة فيها، فزودنا بعدة مقالات مهمة، وكان لقائي الأول به في منتصف التسعينيات في مكتبة القاهرة الكبرى حيث سجلت معه حواريات فكرية حول قضايا الثقافة العربية وأزمة العقل العربي، وملامح المشروع النهضوي المتجدد، وقد كتبت عن ذلك اللقاء القديم، وعبرت عن إعجابي بجرأة حنفي على معاكسة التيارات العِلمانية في إصراره على عِلمانية الإسلام، وهو صاحب نظرية اليسار الإسلامي التي هاجمها إسلاميون وعِلمانيون معاً، وقد خشيت على الرجل بما أكنّ له من محبة وتقدير أن ينكره المتطرفون من الأصوليين والعِلمانيين، فالإسلام في نظر حنفي علمي أو عِلماني (بكسر العين) لأنه قام على غياب اللاهوت، ولأن الأحكام الأساسية فيه وهي (المباح والمحرم والمكروه والمندوب والواجب) تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وقلت: إن الدكتور حنفي شديد الثقة بفكرته، وقد وجد لها تفهماً واسعاً في المحيط العربي والإسلامي، وهذا لا يعني قبولاً في المطلق لكل أفكاره، وما أظنه كان يبحث عن ذلك، فنقد العقل يستدعي من صاحب النظرية أن ينقد ذاته، وهو في اعتقادي مفكر عملي، يحاول أن يرسخ كون مقاصد الشريعة إنسانية الغاية في مزج مقاصد الشارع والمكلف والأمة، مؤكداً على أن وظيفة العقل هي البرهان بعد الشك ثم النظر، والدكتور حنفي شديد التعلق بدور مصر في مشروع النهضة، وهو يرى أن الحركة الوطنية المصرية قد خرجت من عباءة الأفغاني رغم أن جمال الدين لم يَزُرْ مصر إلا مرتين في أربعة أعوام، ولكنه جعل الإسلام في مواجهة الاحتلال، ولقد كان حواري هذا مع الدكتور حنفي حول أزمة الفكر العربي (قبل الحادي عشر من سبتمبر) لكن الحال تبدل، وباتت الأزمة أكثر شدة وقسوة، لكنني سعدت حين وجدت الدكتور حسن بعد سنين ما يزال متفائلاً رغم ظلمة وظلم الظروف الراهنة، فهو لا يرى في الأزمات ما يستدعي أن نرتجف منه، وأن يتملكنا الذعر فلدى كل الأمم أزمات وعقبات، والأزمة مرحلة ولادة وهي آلام مخاض، ولكنه يؤكد على أهمية الاستجابة للتحدي ويقول (تنهار الأمم حين تنتهي الاستجابات وتبقى التحديات). وفي حديثه عن نهاية التاريخ يقول ببساطة (إننا مع بداية التاريخ ولسنا مع نهايته).
وتنطلق رؤية الدكتور حنفي المتفائلة من وعي لحيوية التاريخ العربي الإسلامي وفهم لدورته الزمانية، فقد مرت الأمة بمرحلتين كانت الأولى من القرن الأول الهجري وحتى نهاية القرن السابع الهجري مرحلة نشوء العلوم القديمة وتكوُّنها ثم توقفت وانهارت، وكانت ذروة هذه المرحلة في القرن الرابع عصر المتنبي والبيروني وابن سينا إلخ، وقد انتهت بظهور ابن خلدون الذي حاول الإجابة عن السؤال الصعب في زمنه وهو (كيف قامت الحضارة العربية وكيف انهارت؟) ثم كانت المرحلة الثانية من القرن الثامن الهجري وحتى القرن الرابع عشر مرحلة حلت فيها الذاكرة محل العقل، وكانت مرحلة التدوين الثاني، وقد انتهت بسؤال النهضة (لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم الآخرون؟) وبسؤال أبي الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) والدكتور حنفي يعتقد متفائلاً أن القرون السبعة العجاف قد انتهت والأمة في حالة مخاض، وهو يبحث عن بناء توازُن بين الموروث والرافد وعن دور للمؤسسات في التنوير وعن تحوُّل في الثقافة العربية من الاستهلاك إلى الإبداع.
ولقد أشرت إلى أنني لا أتوافق مع كل أفكار حسن حنفي، ولاسيما في تعريفه للتراث وفي أسلوب الظاهراتية الذي طرحه لفهمه وتجديده، فهو يرى أن التراث هو سلطة مقابل سلطة العقل والطبيعة، وللإنصاف، هو يوسع الرؤية للتراث ويضع التراث الديني والدنيوي والتاريخي والأسطوري في سلة واحدة، بل إنه يرى أنه لا يوجد دين في ذاته، بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة، يمكن تطويرها في لحظة تاريخية قادمة.
وهذا الفهم للتراث يمكن أن نقبله حول ما كتب المفسرون من تفسير للقرآن، ومن شرح للأحاديث النبوية الصحيحة، فأما القرآن الكريم ذاته، والحديث النبوي الصحيح فلست أراهما من التراث الديني، لأنني مؤمن بأن القرآن ليس من صنع مجموعة من البشر، وأحاديث النبي القطعية الصحة هي جزء من نبوته وسُنَّته، ولا يمكن أن نعتبرها تراثاً إنسانياً لجماعة معينة في لحظة تاريخية معينة، وأُدرك أن هناك مَن يخالفني في هذا الفهم، لكنني مؤمن بوجود الله ومؤمن برسوله، وهذا الإيمان ليس موضع شك أو ريبة عندي، وإيماني بكون الوحي من كلام الله يجعلني أرفض دعوة حنفي إلى ما سماه (تحويل الوحي من مادة لاهوتية إلى مادة اجتماعية) ولم أفهم قصده بكلمة (لاهوتية) التي تعني علم العقائد المتعلقة بالله، فإن تجريد الوحي من ألوهيته سيعني تحويله إلى علم اجتماع يسمح بتعديله وإلغاء قدسيته، وما أظن حنفي يقصد ذلك، فربما كان قصده البحث في ربط الوحي بالحياة الاجتماعية، وهذا هو مقصد الوحي أساساً، فهو خطاب للبشر. وكذلك لم أفهم دعوته لتحويل العلاقات الغيبية إلى علاقات مرئية. فكيف سيكون ذلك؟
ولست أنكر عليه رؤيته للعرب بكونهم أمة تراثية، إذا كان المعنى أنهم حفظوا تراثهم، وجعلوه مرجعية، وقدسوا ما هو ديني فيه، وباعتباري أفهم أن الشروح والاجتهادات والتفاسير هي التراث وليس القرآن والسنة، فلا بأس من نزع القداسة عن الدراسات التاريخية لإعادة قراءة النصوص الأصيلة، وهذا مطلب تنويري مهم، ولست مع نزع القداسة عن النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية الصحيحة، كما يدعو بعض المجددين الذين يعتبرون القرآن كتاباً مُلهِماً مثل كتاب ألف ليلة وليلة، يمكن أن يلهمنا كتابة قصيدة أو حكاية أو قصة قصيرة، إنه كتاب يأمر ويَنهى.
وكذلك أقف عند قول حنفي (إن التقدم إلى الجديد يعني التخلص من القديم) فهذا الإطلاق يحتاج إلى تحديد، فصفة القديم لا تعني مدلول قيمة مرفوضة عقلياً، ولا صفة الجديد تعني صحة عقلية مقبولة بالضرورة، وهي ستصير قديمة بعد سنين، وفي القيم الإنسانية العامة مفاهيم ثابتة مثل الصدق والأمانة والوفاء وما يماثل ذلك من أخلاق، لا جديد فيها ولا قديم، إنها مسلمات أخلاقية، وقد خرجت البشرية في عصرنا عن كثير من الثوابت كزواج الرجل من المرأة لبناء أسرة، وجاء التجديد مثلاً بالسماح القانوني بزواج الرجل من الرجل وزواج المرأة من المرأة، ولا نستبعد أن يتطور هذا التجديد بظهور قوانين متجددة تسمح بزواج الرجل من حمارة أو زواج المرأة من كلب.. وقصدي من هذه الأمثلة أن أنبه إلى أن كلمة القديم أو الجديد لا تعني منح سمة أخلاقية أو قيمة، فحتى هذا التجديد في قبول المثلية (مثلاً) كان قديماً جداً ومُتواضَعاً عليه في زمن لوط، وقد رفضته الأديان والإنسانية ولكنه يعود قانونياً في عصر الحداثة وما بعدها.
ومما طرح المفكر حسن حنفي هو دعوته إلى جعل عِلْم الوحي خارجاً عن علوم الدين وعن علوم الدنيا، واقترح تسميته علم المبادئ الأولى، ورأى أن الوحي بمجرد نزوله يتحول إلى علوم إنسانية، وهذا التحول طبيعي لأنه يلبي مقاصد الوحي، ولكنه لا يخرجه عن كونه أصل الدين.
ويرى حنفي أن العقيدة هي اهتمام بالله والرسول، والتجديد هو الثورة والاهتمام بالإنسان.
وللإنصاف لم يَدْعُ حنفي إلى قطيعة مع التراث، بل دعا إلى إعادة قراءته، ولكن بلغة جديدة و (وصف فينومولوجي، ظاهراتي، تأويلي، سبيونوزي، هيجلي، وماركسي) وقد انطلق حنفي من تأثره بسبيونوزا إلى دعوته لبناء جديد لعلم أصول الدين، وأذكر له دعوته المهمة لتأسيس علم الاستغراب لمواجهة علم الاستشراق، وحرصه على التقريب بين المشرق والمغرب.
والمهم عندي أن امتحان الإسلام بهذه الأفكار (التي نقبل بعضها ونرفض بعضاً منها مع التقدير الكبير لأهمية البحث والباحث) جاء في النهاية بترسيخ إيمان حسن حنفي بالله، وقد قرأت فصولاً من ذكرياته، وقد كتب قبل مماته (أتمنى أن يغفر الله الذنوب، ويعفو عني، وأن آتيه بنية صافية يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم، وأتمنى ألا يكون في القبر وحشة بل أُنس).
رحم الله المفكر الكبير حسن حنفي، الذي أَثْرَى المكتبة العربية بسؤال الفلسفة التي تقتحم العقل وتحرضه.