ما يدعوني إلى الحديث عن غياب العرب عن قيادة الأمة، وسقوط الراية من أيديهم وتحوُّلهم إلى رَعايا بعد سقوط الدولة العباسية، هو ما أجده اليوم من غياب مشروع عربي يستعيد فيه العرب حضورهم، بعد أكثر من ألف عام من التخلي عن سُدَّة القيادة، ولئن كان العرب قد استقلوا بدولهم الناشئة بعد قرون من التبعية للدولة العثمانية التي حملت راية الإسلام، فإن هذه الدول لم تستطع أن تحقق على مدى مائة عام ونيّف ما هو أبعد من الحد الأدنى من التضامن العربي، الذي بات بديلاً عن كل التطلعات والطموحات الشعبية والنخبوية لقيام وحدة عربية أو اتحاد يلمّ الشمل ويوحد القوى، ويشد عزيمة الأمة، وكان ابتلاء العرب في العديد من بلدانهم بقيادات -لا تملك فهماً للتاريخ، ولا وعياً للحاضر، ولا رؤية للمستقبل- كارثةً هي أشدُّ بؤساً من الاحتلال والاستعمار والانتداب.
لقد انقسم العرب بعد انهيار الدولة العثمانية إلى فريقين، أحدهما يدعو إلى الرابطة الإسلامية (وهو ما سيؤسس لاحقاً لظهور ما يسمى الإسلام السياسي) وثانيهما يدعو إلى الرابطة القومية، وهو ما أسس لقيام المشروع القومي الذي نادى بالوحدة على أُسس الانتماء العربي، وقد قاده مفكرون قوميون يتجاوزون في دعوتهم اختلاف الأديان والأعراق، ويقدمون اللغة العربية بوصفها وعاءً حضارياً جامعاً وبنية للهوية، ويضيفون الثقافة الواحدة، والتاريخ المشترك والإرادة في العيش معاً إلى جملة من مقوّمات المشروع العربي، ولئن كان بعضهم يُضمر عداء للإسلام، فإن كثيراً من المفكرين كانوا يحرصون على رؤيته حاضنة حضارية، يُشكّل مع المسيحية العربية وجدانَ الأمة، وقد ظهر كُتّاب كبار من المسيحيين والمسلمين في سورية ولبنان أسسوا رؤية عربية قومية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وربما حفزهم توجُّه الأتراك إلى إحياء قوميتهم (تركيا الفتاة) وقد عقد مفكرو العرب في باريس (المؤتمر القومي الأول عام 1913) وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين ظهر حزب البعث العربي ليقود هذا التيار، وسرعان ما ظهرت الناصرية حاملة مشروع القومية العربية بعد الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية عام 1958 ، وقد انفرط عقدها سريعاً، لكن هذا المشروع الوَحدوِيّ الذي تجلّى في عديد من الدعوات والتجارب الإعلامية، تفتَّت وانهار حين سقطت أوهام القوة العربية الناصرية والبعثية منذ نكسة حزيران/ يونيو 1967 ثم في انتقال البعث إلى الصراعات الداخلية ولا سيما بين بعث سورية وبعث العراق، فضلاً عن تنامِي التدخل الدولي في مسارات السياسة العربية بين قطبَي العالم، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ولم يكن هذان القطبان يتفقان على شيء أهم من دعم إسرائيل وتمكينها وجعل قادة المشروع العربي القومي تحت السيطرة.
فأما المشروع الإسلامي فقد أخذته الطموحات بعيداً، ولم يستطع كثير من قادته فَهْم المتغيرات الدولية، وسيطرت على بعضهم أحلامُ إقامة دولة الخلافة من جديد، وعلى بعضهم الآخر فكرة إقامة دولة دينية، لكن المفكرين الوسطيين حاولوا إجراء مصالحة واقعية بين المشروعين القومي والإسلامي، وعُقدت لتلك المصالحة والمواءمة عدة مؤتمرات نمت فكرتها عام 1989 في ندوة الحوار القومي الديني التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة، ولم تستطع هذه المؤتمرات المتتالية ولا سيما التي عُقدت في بيروت أن تُعبِّد طريقاً آمِنة لهذه المصالحة التي قادها مفكرون محترمون.
وعلى الصعيد الإسلامي عادت من جديد صراعات التاريخ القديم لتظهر كأن أحداثها جرت البارحة، ومع ظهور الدولة الإسلامية الخمينية في إيران استيقظ التاريخ الذي أرهق الأمة بصراعاته الدموية ليعلن البحث عمن قتل الحسين رضي الله عنه لأخذ الثأر منه، وليعلن حق الخلافة لآل البيت النبوي، منتظراً ظهور المهدي صاحب الولاية الذي غاب ولكنه لم يمت إلى الآن، وقد شجعت دول الغرب هذا التوجه ودعمت إيران وتوجُّهها إلى ابتداع فكر (الوليّ الفقيه) الذي يحكم نيابة عن الإمام الغائب حتى يظهر، وساندت الثورة الإيرانية في انحرافها عن شعاراتها الديمقراطية بدعم معلن وشهير للخميني، وسُرْعان ما جعلت إيران أبرزَ أهدافها تصديرَ ثورتها إلى الدول العربية، ونشر التشيع في العالم الإسلامي والبيعة للولي الفقيه.
وقد قامت الولايات المتحدة بتمكين إيران من الاستيلاء على العراق بعد غزوها له بذريعة احتمال وجود أسلحة دمار شامل، وكان الهدف الخفيّ هو تمكين إيران من التوسع لإجهاض تنامي الحضور العربي الذي تتبع غالبيتُه العظمى مذاهبَ أهل السُّنة، رغم أن الإسلام لم يكن حاكماً، ولم تكن هناك دول عربية دينية، لكن الهدف هو إِذْكاء الصراع "السني – الشيعي"، ليحل بديلاً عن الصراع "العربي – الإسرائيلي"، وقد تم هذا الحلول بقوة منذ أن تم تهجير الفلسطينيين من جنوب لبنان ليحل مكانهم حزب الله الشيعي بوَلاء مطلق لإيران، واليوم يسيطر هذا الحزب على لبنان سيطرة كاملة أوصلت لبنان إلى ما هو فيه من انهيار ودمار.
إن تأمُّل الواقع الراهن يستحضر في أذهاننا التاريخ؛ لأن ما يحدث الآن هو امتداد له، واستعادة لوقائعه.
لقد سبق أن ظهر المهدي (المنتظر) ولكنه على ما يقول التاريخ كان من نسل جعفر الصادق رضي الله عنه، وليس من أصول هندية أو فارسية، لقد جاء ظهور الإمام عبيد الله بن الحسين المهدي من سلالة الإمام جعفر الصادق في "سلمية" في سورية، في عصر كانت راية الإسلام فيه تنتقل من يد أمة إلى يد أمة أخرى، من الفرس إلى السلاجقة إلى الأمازيغ، وكان العرب بين هذه الأمم جنوداً وحاضنة لأولئك المنتصرين الذين يجلسون على كرسي الحكم ما داموا يدافعون عن الإسلام.
لكن الدولة الفاطمية استعادت الحضور العربي، ولست مَعْنيّاً بالخلافات العصبية والطائفية التي شغلت التاريخ حول الإمام عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية، فكثير من أهل السُّنة يرون أن أصل العبيديين فارسي أو يهودي، وأنهم من نسل ميمون بن قداح الذي ادَّعى أنه من نسل إسماعيل بن جعفر مع أن إسماعيل لم يكن له ولد كما يقال، وربما كان حِرْص أهل السُّنة على الدولة العباسية التي انهارت دافعاً لهذه الشكوك التي قواها عند مَن يعتقدون بها تداعياتُ ظهور حركات مريبة منها القرامطة والحشاشون والبهائيون والبوهرة وسواهم كثير ممن ادَّعوا الإسلام وانحرفوا عنه، فالمهم أن الدولة الفاطمية الشيعية التي ظهرت مطلع القرن العاشر الميلادي في تونس، امتدت إلى مصر وحكمتها قرنين ونصف القرن، وكان حضورها (بعيداً عن المذهبية) عودة للراية العربية بعد أن انهار الحكم العربي العباسي وظهرت فيها الدولة الطولونية التي امتدت إلى حكم الشام أيضاً، وبعد انهيارها ظهرت الدولة الإخشيدية التي امتدت من مصر إلى الشام ثم إلى الحجاز، لكنها سُرْعان ما انهارت بعد موت كافور وحفيده، وقد سقطت أمام ضربات الفاطميين، الذين امتدوا من تونس إلى مصر، ولم يقاومهم المصريون الذين وعدهم الفاطميون بأن يبقوا على مذهبهم السني دون تدخُّل شيعي، وقد جاء هذا الإعلان في خطاب جوهر الصقلي (باني القاهرة) وهو الخطاب الذي ألقاه باسم سيده المعز لدين الله الفاطمي.
كان الفاطميون يصارعون دولة القرامطة التي يدعمها البويهيون، وقد نجحوا في صدها، لكن الصراع الأكبر كان مع الصليبيين، الذين هددوا الدولة منذ أن سقطت عسقلان بأيديهم، وكان الجانب الشامي المساند لمصر يشهد ظهور نور الدين الزنكي وهو ابن عماد الدين، وكان نور الدين أحد كبار أبطال المسلمين السُّنة في التاريخ ولقبه (نور الدين الشهيد وليث الإسلام) قد جنَّد حياته كلها لطرد الصليبيين، ووقف مدافعاً عن الفاطميين دفاعاً عن مصر أمام هجمات الصليبيين، ومن مآثِره أنه صنع منبراً للمسجد الأقصى الذي كان تحت الاحتلال الصليبي، وقد نقل هذا المنبر من دمشق إلى الأقصى بعد أن حرره صلاح الدين وسُمِّي منبر صلاح الدين، ومن الطريف أن الحكومة السورية صنعت منبراً جديداً قبل بضع سنين باسم منبر صلاح الدين وأحسب أنه ما يزال موجوداً في حلب في انتظار تحرير القدس.
ومن المعلوم أن صلاح الدين كان الوزير السُّني في حكومة الفاطميين بعد مُؤازَرة نور الدين الزنكي لها عَبْر حملات قادها أسد الدين شيركو عمّ صلاح الدين الذي بدأ بعد انهيار الدولة الفاطمية بناء الدولة الأيوبية التي سُرْعان ما شملت مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاءً من المغرب العربي، وقد دعا صلاح الدين للخليفة العباسي حِرْصاً على الشرعية العربية. وللحديث بقية.
إقرا أيضاً:[thumb-post shortLink="Art4988Z2kiPKwT"][/thumb-post]