تبدو الهُوَّة سحيقة والفارق جوهرياً بين المبادئ ومنظومات القيم الأخلاقية والإنسانية وبين تطبيقاتها وترجماتها في الواقع.
والدليل الأكبر السقوط المعنوي لمنظومة القيم الأوروبية في التعامل مع ظاهرتَي اللجوء والهجرة غير الشرعية.
شهد بحر "المانش" بين فرنسا وبريطانيا، هذا الأسبوع، مأساة جديدة تمثلت بمقتل 31 شخصاً في حادثة غرق زورق للمهاجرين.
ولا يقتصر التيه وسط بحار أوروبا من المانش إلى البحر الأبيض المتوسط فحسب، بل يبرز بصُوَره الصادمة منذ أشهر عند الحدود البولندية البيلاروسية، إذ يعيش آلاف المهاجرين "الحالمين بالجنة الأوروبية" وضعاً كارثياً.
إزاء عدم وجود استجابة عالمية لمواجهة ظاهرة الهجرة، وعجز الاتحاد الأوروبي عن بلورة إستراتيجية موحَّدة، وتكاثر الدول الفاشلة أو انعدام فرص العيش الكريم في بلدان تصدير الهجرة، تَمَّ جَعْل المهاجرين وسيلة تستخدمها بعض الدول أو سلعة لتصفية الحسابات السياسية أو ذريعة لصعود الشعبويين والقوى المتشددة في أوروبا. والأَدْهَى أن المشرق العربي من العراق إلى سورية ولبنان أصبح الشباب فيه لا يحلمون إلا بالهجرة مهما غلا الثمن، ويستغل ذلك المهربون والمافيات وبعض شركات الطيران والدول، كلٌّ لأسبابه.
هناك افترشوا الأرض في حرارة تقترب إلى ما دون الصفر في المساء، بلا غذاء أو ماء.
هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين، بؤساء القرن الحادي والعشرين، وغالبيتهم من الشرق الأوسط وإفريقيا، حُوصروا عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا بعد اتهام "وارسو" لـ"مينسك" بالوقوف وراء حملة الهجرة انتقاماً للعقوبات المفروضة على الرئيس البيلاروسي المدعوم من روسيا ألكسندر لوكاشينكو.
ومنعت بولندا المهاجرين من العبور نحو دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما ألمانيا، وفرضت حالة الطوارئ، حيث منعت كذلك المنظمات الإنسانية والصحافيين من القدوم إليهم. وبات المهاجرون أمام مصير مجهول، بين مِطرَقة بيلاروسيا (المُستنِدة إلى دعم روسيا) وبين سَنْدَان بولونيا (العضو في الاتحاد الأوروبي وشريك الولايات المتحدة الأمريكية).
حيث يُمنعون من العبور نحو أوروبا أو البقاء في بيلاروسيا مع صعوبات العودة إلى بلادهم. بعدما وردت أنباء عن أن غالبية الساعين للهجرة واللجوء هم من الأكراد العراقيين، لكن اتضح لاحقاً أن شبكة "مافياوية" تقاضت بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف دولار عن الشخص وتعاونت مع سفارات بيلاروسيا في بغداد ودمشق وبيروت من أجل جذب وتسهيل المغامرة الشاقة عبر بيلاروسيا وحدودها من دون إعطاء أي ضمانات.
وهذا الخليط من اليائسين والمغامرين غدوا من التائهين والمغفلين. ومع احتدام الوضع ومصرع عشرين شخصاً على الأقل، وكذلك اعتقال العشرات في بولندا من "المتسللين"، وفي انتظار أن يجيب الاتحاد الأوروبي لطلبات استيعاب ألفين من المهاجرين (حسب طلب ألكسندر لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا من المستشارة أنجيلا ميركل)، أُعيد حوالَيْ 400 من المهاجرين العالقين إلى العراق ونقلت السلطات البيلاروسية حوالَيْ 2000 منهم إلى مركز إيواء مؤقت.
تتكلم "مينسك" عن تفاوُضها بشأن "ممر إنساني" مع الاتحاد الأوروبي، وتردّ "وارسو" مدعومة من باريس والمفوضية الأوروبية أن بيلاروسيا تشن "حرباً هجينة" عَبْر الدفع بالمهاجرين نحو حدود الاتحاد الأوروبي، وذلك انتقاماً من عدم اعتراف الأوروبيين بشرعية انتخاب لوكاشينكو في الصيف الماضي وفرضهم عقوبات على "مينسك".
أدى تفاقُم الموقف في الأسبوعين الأخيرين إلى خشية جهات محلية ودولية من تحوُّل التطورات الدراماتيكية إلى نزاع مسلح بين الجارين النقيضين. من جهة، ومن الواضح استخدام أزمة الهجرة ذريعة لتصعيد الموقف في المنطقة، في إطار اختبار القوة بين الدول الغربية من جهة وروسيا وحلفائها من جهة أخرى. ووصل الأمر برئيس الوزراء البولندي ماتوش مورافيتسكي للقول: "ما نواجهه هنا، هو شكل من أشكال إرهاب الدولة". ولكن طلب "وارسو" إنشاء سياج حدودي تموله أوروبا لم يحصل على التأييد لأن ذكرى جدار برلين لا تزال راسخة.
أما شارل ميشيل فاعتبر أن عقوبات جديدة بحق بيلاروسيا "مطروحة على الطاولة"، وأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ستبحث هذه المسألة الإثنين المقبل.
وكان ممثلو دول الاتحاد الأوروبي قد اتفقوا الأسبوع الماضي مبدئياً على توسيع العقوبات المفروضة على بيلاروسيا والتي تستهدف النظام، في خطوة تمهد لموافقة وزراء خارجية الدول الـ27 على إضافة مجموعة من الأفراد.
لكن الاتصالات بين لوكاشينكو وميركل كما بين ماكرون وبوتين، وكذلك تهديد "مينسك" بمنع مرور إمدادات الغاز إلى أوروبا، أخذت تؤدي لبعض التهدئة وإيجاد سُبل للمعالجة الإنسانية.
على صعيد مأساة "المانش" الأخيرة، يتم تبادل الاتهامات ويقوم وزير الداخلية الفرنسي بتحميل المهرِّبين المسؤولية، بينما تعتبر المنظمات غير الحكومية أنها مسؤولية السلطات الفرنسية والبريطانية.
وبعد تلميح لندن إلى تقصير فرنسا المنشغلة في موسمها الانتخابي، رد ماكرون مُطالِباً بعدم الاستغلال السياسي للمأساة. ومن الواضح أن توتر العلاقات "الفرنسية – البريطانية" في مرحلة ما بعد "البريكست" ينعكس سلباً على التنسيق بين الطرفين في العديد من الملفات.
هكذا يدفع الثمنَ التائهون، ومصيبتهم تأتي من كونهم ينحدرون من بقاع الأرض الأخرى من أفغانستان إلى المشرق وإفريقيا، ولأن العالم ليس بخير ومنظومة القيم تتساقط، ولم تعد إنسانية الإنسان معياراً في زمن النَّفْعِيَّة والسعي للسيطرة.