تَرْنُو الأنظار نحو استئناف مباحثات "فيينا" في أيلول/ سبتمبر القادم بين أطراف الاتفاق النووي، بمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة، بعد ست جولات غير مثمرة منذ نيسان/ إبريل الماضي. وسيمثل ذلك اختباراً لمستقبل اللعبة بين طهران وواشنطن في زمن "جو بايدن" و"إبراهيم رئيسي". وبالرغم من تعدُّد السيناريوهات لمسار متعرج، سيؤثر هذا الفصل الجديد على ملفات المنطقة والنزاعات فيها، لكنه لا يبدو حاسماً لجهة الخيارات نتيجة نهج أميركي ملتبس ورقصة إيرانية على حبال التجاذُبات الدولية والإقليمية.
لا تتغير السياسات الإيرانية مع انتهاء ولاية رئاسية وبداية ولاية أخرى، لأن مركز القرار ينحصر في المرشد الأعلى وما انطبق على الرؤساء السابقين ينطبق على "إبراهيم رئيسي" الأصولي المتشدِّد الذي استمد شرعيته من اختبار المرشد له في هندسة جعلت العملية الانتخابية مجرد تمرين شكلي.
لا يمكن إهمال العامل الخارجي في حيثيات هذا المنعطف الإيراني، ومما لا شك فيه أن المرشد "علي خامنئي" أراد تمرير رسالة إلى رئيس القوة العظمى الرئيسية "جو بايدن" بأن رهانات الرئيس الإيراني الجديد لن تقتصر على ترتيب الأوضاع مع واشنطن والغرب، بل يمكن أن تركز على التوجه نحو الصين وروسيا. ولذا لا مَناص في واشنطن من القبول بأولويات طهران حول كيفية العودة إلى "خطة العمل المشتركة" للعام 2015 ، من دون ضرورة عودة إيران لاحترام كامل التزاماتها، مع الحصول على عشرات مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية المحجوزة مما يسهل استمرار وتوسُّع المشروع الإمبراطوري الإيراني.
هكذا تخطط دائرة صنع القرار في طهران في السعي لانتزاع "التنازل الأقصى" من إدارة "بايدن" (مع وجود "أصدقاء طهران" فيها وأبرزهم المبعوث الخاص روبرت مالي الذي ينظر لضرورة بناء الصلة مع الخصوم وزيادة الضغط على الحلفاء!) بعدما عانت من إستراتيجية " الضغط الأقصى" خلال حقبة إدارة ترامب .
وسيكون السؤال الكبير حول رِدّة فعل واشنطن في آخِر المطاف، وهل ستتفاعل سلباً أم إيجاباً إزاء التحدي الإيراني؟ منذ وصول "بايدن" وقبل تسلُّم "رئيسي" لسلطاته، بعثت طهران بسلسلة رسائل بالنار إلى واشنطن من العراق إلى الممرات البحرية، ولذلك على ضوء تفاعُلات "حرب الظل" أو "حرب الناقلات" نستنتج توجُّهاً أميركياً لتجنُّب المواجهة المفتوحة والمباشرة، لكن مع عدم إعطاء الانطباع بالتراجع أمام طهران.
إن كل الأدلة المتاحة تشير إلى وقوف إيران وراء الهجوم على الناقلة "ميرسر ستريت"، أوائل أغسطس. وخلال هذا الهجوم بطائرة مسيَّرة وفي تصعيد هو الأخطر منذ فترة، قُتل شخصان أحدهما بريطاني والآخر روماني من طاقم هذه الناقلة التي ترفع العلم الليبيري، وتديرها شركة إسرائيلية قُبالة سواحل سلطنة عمان.
لم تمنع رُدود الفعل الدولية المستنكِرة واحتمال عمل "أميركي – بريطاني – إسرائيلي" مشترك من محاولة خطف سفينة أخرى، وكل ذلك يؤكد على تزايُد مخاطر "حرب الناقلات" أو " الحرب البحرية بالوكالة" مما ينتهك حرية الملاحة التي يضمنها القانون الدولي، وفِي منطقة تُمثِّل الشريان الحيوي للطاقة.
لا يمكن عزل ما يجري في مياه الخليج وبحر العرب، عن أعمال أمنية أو عسكرية جرت وتجري في سياق «حروب الظل» بين طهران وواشنطن وتل أبيب، والتي يمكن أن تتفاقم بعد التطورات الأخيرة ، لكنها تذكِّرنا بممارسات مشابِهة بعد منتصف الثمانينيات من القرن الماضي خلال حرب "العراق – إيران" والتي جرى حَسْمها مع عملية «براينغ مانتيس» (بالعربية فرس النبي) في إبريل 1988 وحينها انتقمت واشنطن من ضربات إيرانية وقامت بتدمير قُرابة نصف الأسطول الإيراني.
وهذه المرة ربما دفعت المشكلات حول مفاوضات فيينا ومستقبل مشروع إيران الإقليمي لزيادة التوتر في مياه الخليج، لكنها تمثل حافزاً لعدم الذهاب بعيداً في التصعيد حتى لا تغلق كل الأبواب، ومن هنا ستكون واشنطن ملزَمة في حال اضطرت للرد أو سمحت لإسرائيل بالرد أن يكون ذلك محدوداً ومتناسباً حتى لا يغلق فرص التفاوض.
وفي هذا السياق وسيناريوهات مباحثات "فيينا"، ثمة احتمال قيام إيران بعد تسلُّم رئيسي بتسريع خطواتها لَيْس للعودة إلى الاتفاق، بل نحو السيطرة على دورة الوقود النووي للوصول إلى إمكان إنتاج السلاح النووي. وحسب مصادر أمنية غربية، تتراجع فرص عودة إيران إلى اتفاق 2015 ؛ لأن "المكتوب يُقرَأ من عنوانه" حَسَب المثل الشعبي إذ إن "رئيسي" صرح في أول مؤتمر صحافي له أنه ليس مستعِدّاً للقاء الرئيس "جو بايدن" في حال نجاح مباحثات فيينا، أما الإشارة الثانية فكانت عَبْر رسائل "التفاوض بالنار" والإشارة الثالثة كانت من خلال اقتراح حكومة من الصقور وبدل "محمد جواد ظريف" (الذي عاش طويلاً في نيويورك ويعرف الولايات المتحدة) سيحل على رأس الدبلوماسية الإيرانية المتشدد "حسين أمير عبد البهيان" .
بناءً على ترجيحات كهذه، يبدو أن إسرائيل تسعى للضغط من خلال اقتراح «خطّة فعّالة لممارسة ضغوط دولية كبيرة من شأنها ردع إيران وإجبارها على وَقْف خُطَطها النووية" ويشمل ذلك اقتراحاً بتهديد عسكري أميركي ملموس إلى جانب عقوبات اقتصادية ودبلوماسية كبيرة، لكن المُستبعَد أن تبقى هذه الآراء آذاناً صافية لدى إدارة "بايدن". والأَدْهَى أن خبراء في "بروكسيل" يُرجِّحون أن إيران قد تكون غير مَعْنِيّة، بالفعل، بالعودة إلى اتفاق 2015؛ لأن "النجاح النووي الكامل لإيران سيدفعها إلى تعزيز قُدُراتها وقُدُرات حلفائها بصورة أشملَ" ، بينما لا يبدو أن واشنطن مُستعِدّة للحُؤُول دون ذلك.
قبل اتخاذ القرار النهائي بخصوص استئناف مباحثات "فيينا"، يردد "رئيسي" أنه لن يسمح بإجراء "مفاوضات من أجل المفاوضات"، يؤكد أن أي تفاوُض يجب أن يؤدي إلى تحقيق "نتائج" للشعب الإيراني. ومن جهتها، تُركِّز واشنطن على أنه لا يوجد مدى زمني مفتوح لمباحثات "فيينا". بغض النظر عن التصعيد الكلامي في الفصل الجديد، ومع تداعيات قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان، سيكون هامش المناورة الأميركي محدوداً خلال هذا الفصل من "الفيلم الهوليودي الطويل" مع طهران. وفي المقابل بالرغم من اللهجة العالية تبدو إيران مَأْزُومة ومُضطَرّة لتعديل سلوكها، وفي لحظة اتخاذ القرار يمكن أن يصبح النظام الإيراني عالقاً في مأزق الاختيار: التراجُع أمام واشنطن و"تجرُّع كأس السمّ" أو الرِّهان على نَهْج المُواجَهة مع التَّبِعات الخطيرة لكِلا الخيارين.
حِيال المسألة السورية لا بد أن ينعكس تطوُّر العلاقة بين واشنطن وطهران على مجرياتها، والانعكاس الأكثر سلبية سيكون في حال عدم إلزام واشنطن إيران بقبول التفاوض حول توسعها الإقليمي وتدخُّلها المكشوف في بلاد الشام.