ثمة نتائج غير حميدة بل كارثية إلى اليوم في المشهد السوري. فإن كان ثَمة توافُق حول قراءة المشهد السوري بالتدخلات الدولية والإقليمية وتحوّلها لموضوع حرب مكثفة في وعلى سورية، لكن رؤية المشهد الداخلي للسياق السوري بين موضوعَي السلمية والمدنية من جهة والعنف من جهة أخرى محطّ خلاف كبير لدرجة التبايُن المُطلَق واختلاف المَسارات، وبالنتيجة النتائج.
في قراءة الضرورات والإمكانيات يكمن محتوى الرؤية، إذ يذهب دُعاة فرضية العمل السلمي والمدني إلى أن الثورة السورية قد قضمها العنف والعسكرة وبالنتيجة الأسلمة والتطييف، وهم صادقون وجدانياً على الأغلب. تعززت هذه الفرضية بعد نجاح التظاهرات في الجزائر والسودان عام 2019. في بحث موسَّع تم فيه مُقارَنة سياق تطوُّر المسألة السورية وتَمَرْحُلها، لكن مُقارَبة النتائج وَفْق خَطَّي السلمية والعنف تحتاج لتوضيح أكثر.
نشر ديفيد روبنسون في BBC Arabic عام 2019، خلاصة دراسة كمية واسعة للثورات قامت بها الباحثة الأمريكية إيريكا شينوويث في العصر الحديث، عنوانها القاعدة الذهبية في نجاح الثورات، وتُحصي كفاية "مشاركة 3.5% من السكان مشاركة فعّالة في الاحتجاجات تضمن حصول تغيير سياسي حقيقي"، بينما تُظهر أرقام وإحصائيات التظاهر السلمي السوري في سنتها الأولى أرقاماً ونسباً تصل لمشاركة 20% من السوريين وبتواترات زمنية متتالية! ومع هذا لم تنجح الثورة السلمية!
سياق الدراسة أيضاً أبرز أن هناك تمايُزاً بين أنواع المقاومة السلمية والعُنْفيَّة، إذ أظهرت نتائجها أن "أنشطة المقاومة اللاعُنْفيَّة الرئيسية حققت نجاحاً بنسبة 53%، مقابل 26% للعُنْفيَّة"، وذلك لسببين رئيسيين:
-المقاومة اللاعُنْفيَّة تُعزِّز من شرعيتها المحلية والدولية وتشجع على مشاركة أوسع نطاقاً.
-عدم تمكُّن السلطات من تبرير الهجمات المضادة ضد المقاومة السلمية بسهولة مقارنة بالمسلحة، حيث إن "العنف الذي تمارسه تلك الأنظمة ضد حركات المقاومة السلمية غالباً ما يؤدي إلى نتائج عكسية ضد هذه الحكومات"، وهذا ما يمكن تلمُّسه وضوحاً في نماذج سيطرة الفصائل المسلحة الإسلامية بعد عام 2013 من جهة، والمتطرفة من جهة أخرى، على مناطق واسعة من سورية وخروج المظاهرات ضدها من أهالي ذات المنطقة، فحيث ساد لون واحد من السيطرة العسكرية وبصبغة أيديولوجية وحيدة، قل التعاطف الشعبي معها، سواء في مناطق سيطرتها أو مشابهها في مناطق النظام، ووضعت المجتمع بعمومه أمام أحد خيارين: التطرف أو السلطة القائمة، وذلك خلافاً مع المظاهرات السلمية. ومع هذا لم تثبت الفرضية السلمية فعّاليتها في مفاوضات جنيف السياسية، والتي قادتها المعارضة السياسية السورية ولم تأتِ بنتيجة لليوم، رغم جنيف 1/2012 وقرار مجلس الأمن 2254/2015 وذلك قبل التطور الكبير في حالة العسكرة والتدخلات الدولية الكبرى! فهل تنتهي المسألة والفرضية هنا؟
يذهب أصحاب رؤية العمل العسكري والثورة العسكرية، بأن دعاة السلمية رومانسيون وربما انتهازيون! وأنه لا يمكن إسقاط أو تغيير النظام إلا بالعمل العسكري والتدخل الخارجي أيضاً، وقد تكون هذه واقعية نسبياً بالمقارنة بمجريات الحدث العامّ في سورية لليوم، ومع هذا لم يسقط النظام بالعمل العسكري كما السلمي قبله! ولم يحدث التدخل العسكري الخارجي، بل تحولت سورية لمستنقع لشتى صنوف الحرب المُعلَن منها والباطن. وهذا ما يُحيل لدراسة طبيعة المؤسسة العسكرية في تحويل الحالة السلمية إلى عسكرية عُنْفيَّة كما فصلها "مركز الجزيرة للدراسات". ليُبرز دور المؤسسة العسكرية بتحويل سورية لساحة حرب مفتوحة على الدمار من كل جوانبه حين وقفت ضد المظاهرات السلمية، أدت لانشقاقات متتالية فيها فردية وجماعية، استدعت تدخلات عسكرية خارجية متعددة، وهذا خارج عن الثورة سواء بصيغتها السلمية، أو بصفتها مسألة تختص بالشأن المحلي السوري وحَسْبُ؛ لتتحول المسألة السورية لحالة صراع عسكري محلي وجيوسياسي في تقاسُم مواقع السيطرة والسلطة وتفاوُض عسكري سياسي من خلال الضالعين في ملفها عسكريّاً (روسيا وإيران وتركيا) بما عرف بلقاءات "أستانا"، والممثلة بالفصائل العسكرية المتنازعة على الأرض حَسَب تصريحات المسؤولين الروس. وهذا كله توصيف حرب لا توصيف ثورة تبدلت بين السلمية والعسكرية وتمددت رقعتها الداخلية بعيداً عن الثورة والتغيير الممكن، والضرورات التي بررت العسكرة المقيتة، أو عن فرضية نجاح النزاع السلمي عن العُنْفي بنِسَب معينة إحصائية، بل تُظهر المسألةُ السورية حجمَ الاختلاط في قراءة المشهد بين الثورة والحرب.
بين هاتين الفرضيتين، تتباين فرضيات العمل السياسي المعارض بين الانزياح لهذه وتلك، وممارسة كل صنوف "التقيّة" والمُوارَبة وعدم الوضوح، كما التشدد في خوض غمار إحدى الفرضيتين علناً أو سراً؛ لتتكاثر الفرضيات وتنمو العشوائية والتخبط ويخوض الجميع في تصعيد لغة الخطاب المضاد والعنيف أيضاً. فالتحول من الثورة للنزاع على السلطة، مُترافِقاً مع العمل العسكري يؤدي إلى تغيُّرات متعددة في سياقات الثورة وحركة التغيير المنشودة، فإن كان إحداها إخراج شريحة واسعة من الجمهور من معادلة الصراع هذه لأسبابهم: الخوف من الحرب، رمادية الرؤية، مناهضة العنف، أياً يكن، لكن النقطة الأبرز فيها هي فِقْدان العمل السياسي لفاعليته في مجرى الأحداث وتحوله لتابع لنتيجة الحرب حسب حنة أرندت في كتابها في الثورة "فالنظرية الحربية أو النظرية الثورية والتي لا تبحث إلا في تسويغ العنف، بوصفه عنفاً، فإنها لا تعود نظرية سياسية، بل نظرية مضادة لما هو سياسي" كما أن كسب السلطة عَبْر العنف لا ينتج عملاً سياسياً سواء في صعيدَي المعارضة أو السلطة القائمة. لتبدو هذه النقطة محطة مهمة في مَسار الصراع السوري لم تأخذ حقها في الدراسة والبحث المنهجي بقدر حديّة التأييد أو الرفض المُطلَقيْنِ!
لم تكن السلمية رومانسية، ولم يكن التحول التدريجي للعسكرة خياراً للشباب السوري وعُمقه المحلي، بل طريق إجباري أمام خيارَي الموت أو الحياة. لكن تأجيج العنف وأدوات الحرب والأيديولوجيات التي تحاول الهيمنة محلياً وإقليميّاً، هي التي ساهمت في إخراج المسألة السورية عن سياقها العامّ في التغيير، كما عملت نزعة فرض الشرعية سواء كانت سلمية ومدنية أو عسكرية أو إسلامية أو أيديولوجية منفردة مُعارِضةً كانت أو سلطوية هي التي ساهمت بشكل رئيسي بفشل السلمية الأولى التي ما زلنا نتمسك بها لليوم وللحظة، وهي ذاتها ما قادت للخسائر الكبرى العسكرية دون وجود منتصر فعلي، مع غلبة كِفَّة السلطة القائمة، لكنها لليوم لم تنتج عملاً سياسياً يعاكس مسار الانهيار العامّ في سورية سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً وعلى الجميع دون استثناء. وما رهن قرار السوريين بيد دول العالم والإقليم سوى إشارة لا بُدَّ من التقاطها بحذاقة من الوطنية السورية لاستعادة زمام المبادرة بإعادة تعزيز وتفعيل العمل المدني والسياسي بعيداً عن نزعتَي الشرعية أو الاستئثار بالسلطة وتبرير مفهوم العنف في مرحلة تطل بأخطار نتائجها النهائية على كل السوريين، ما قد يُعيد فَرْضيَّات الحل السوري لموقف مختلف عن كل الاستثناءات والشواذّ السائدة فيما سبق من دراسات ووقائع. فهل سورية بذاتها الاستثناء أم أن فكرنا ورؤيتنا لليوم لم تستهدف إدراكَ هذا الاستثناء وتوظيفَه وطنياً؟
Author
-
كاتب وباحث سوري، حاز درجة دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له عدد من الأبحاث العلمية المنشورة، وعدد من المقالات