هل هناك عمر محدَّد لا يكون فيه الإنسان قادراً على الاشتغال في الشأن السياسي؟
إن الإجابة التي تتوسل الحكمَ العامَّ لا تعتد بالاستثناء معرفياً. فوجود البجعة السوداء لا يُلغي الحكم العامّ بأن البجع أبيض.
السياسة في حقيقة الأمر، من أكثر مجالات الحياة تعقيداً، ولهذا فهي تتطلب، في الحالة العادية، أكثر العقول دهاءً. والدهاء هو الذكاء تفكيراً وممارسة.
السياسة واقع متحول جداً، ومتغير بشكل سريع، فالسياسي يجد نفسه دائماً أمام وقائع جديدة، ولهذا فالخبرة وحدها لا تكفي، فمهما توافرت الخبرة لرجل السياسة فإنه سيواجه عالماً جديداً لم يَخبره من قبلُ.
لا أبالغ إذا قلت بأن الخبرة السياسية الماضية للسياسي غالباً ما تكون عائقاً أمام التعامل مع الأحداث المستجدة، وذلك إذا ما قاس الحاضرَ على الماضي. بل إن العقل السياسي الذي يتعامل مع الحاضر بمعايير الماضي، مهما كان عمره، يشكل خطراً على الفعل السياسي.
ولهذا فإن العمر الزمني للسياسي محدود، ليس محدوداً بحجم الخبرة فقط، بل بحجم المفاهيم التي لديه والتي لم تَعُدْ تشكِّل أدوات معرفية لفض الواقع المعيش، ومحدوداً بنمط التجربة التي مر بها.
في إحدى الندوات التي حضرتها في القاهرة في مركز "الأهرام" قال أحد الباحثين المصريين في نقد أبي عمار والتجربة الفلسطينية بعد "أوسلو" ما يلي: كان أبو عمار في الأصل جيفارا، وبعد اتفاقات أوسلو صار السادات. لكنه -وقد صار السادات ورئيس سلطة في فلسطين- أصر أن يحتفظ بروح جيفارا. ولم يستطع أن يتخلص من روح قائد الثورة الفلسطينية، وهو في الداخل. فتعامل -وهو بطل أوسلو- بروح جيفارا ولهذا فشل، فالعدو لا يريده إلا بطل أوسلو فقط.
حسبي وأنا أنتقل إلى المجرد العامّ والعامّ فلسفياً في القول أن أشير إلى أن تاريخ التحولات الكبرى في المجتمع بصُعُدِه كلِّها يشهد على أنّ المحرك الحقيقي لهذه التحولات هو روح الشباب، وبعض من أرواح الكهول المحتفظة بروح شبابها وحكمة التجربة المتجددة. وليست هذه المقدمة انتقاصاً من الجيل الكهل الذي عاصر فترات تاريخية سابقة، رغم ما يجب من النقد لتجربتهم. بل إنّ نقد الممارستين النظرية والعملية لذلك الجيل -وَفْق معطيات الراهن وآخِر مُنجَزات المعرفة- أمرٌ في غاية الأهمية.
فصراع الأجيال واقعة تاريخية دائمة؛ لأنه صراع بين عالمين قديم وجديد، بين طموحين، طموح مات وطموح وليد، بين وعييْنِ، وعي عتيق ووعي فتيّ.
مستقبلنا لن يقرره اليوم إلا عقل الشباب وإرادة الشباب الذين عرفوا ويعرفون معنى الجديد والحياة الجديدة.
هذه الواقعة التي يجب أن نعترف بها، تسهل علينا فَهْم التناقض والاختلاف الذي يصل أحياناً حدّ الصراع بين الأجيال. وهذا الأمر ينسحب على السياسة والأدب والفكر وطرق العيش والقيم والعادات والتقاليد.
الأيديولوجيات التي حركت أجيال الماضي لم تعد تعني شيئاً للجيل العائش في هذا الواقع سريع التغير.
أجل تتميز روح الشباب بالتأفف من الواقع المعيش، وبروح المغامرة التي لا تتهيّب الخطر وصعود الجبال، بلغة الشاعر الذي قضى شاباً (أبو القاسم الشابي)، فضلاً عن أنّ عقل الشباب عقل وَقّاد وحدسي؛ فالفئة العمرية من العشرين إلى الأربعين هي التي تحمل دائماً عِبْء تغيير العالم.
والأمثلة أكثر من أن تُحصى على صحة أحكامنا هذه. حسبنا القول بأن فرح أنطون أصدر مجلة "الجامعة" عام 1899 ولَم يبلغ خمساً وعشرين سنة، وأصدر علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925 ولم يبلغ سبعاً وثلاثين عاماً، وقِسْ على ذلك طه حسين الذي أصدر عام 1925 كتابه "في الأدب الجاهلي" بعمر علي عبد الرازق. وهؤلاء لعبوا دوراً كبيراً في نهضة مصر والعرب. هذا على مستوى الفكر.
كما أنّ أغلب شهداء السادس من أيار الذين علقهم جمال باشا السفّاح على أعواد المشانق في ساحات بيروت ودمشق كانوا في سن الشباب. ولمن لا يعلم أُعدم عبدالغني العريسي وعمره خمسة وعشرون عاماً.
ومؤسسو الأحزاب الأيديولوجية الكبرى كانوا من الشباب، سعادة وعفلق وبكداش والبنا.
والعنصر الحاسم في وعي الشباب بعالمهم اليوم هو الحرية قبل كل شيء؛ فالحرية تدخل في وعيه لكرامته، في حبه للعمل وخيارات عمله، في تحديد مستقبله، في تَوْقه للحصول على حاجاته التي تتوالد يوماً بعد يوم وفي سرعة مدهشة.
إنّ مستقبلنا لن يقرره اليوم إلا عقل الشباب وإرادة الشباب الذين عرفوا ويعرفون معنى الجديد والحياة الجديدة. الشباب الممتلئ بالحرية والتَّوْق إليها. وعندي أنّ أغلبية شباب المنطقة العربية هم أبناء الحداثة وعياً وممارسةً.
والكهول الذين لا يتمثَّلون روحَ الشباب وقوة عقلهم، يشكلون عقبة خطيرة في مسار التغيير والربيع القادم. بل إنّ اصطياد الشباب من قِبل الحركات الأصولية الشائخة ما كان ليتم لولا الوعد الذي يُغري الشباب. وعد من جيل لم يعرف لذة النصر مرة واحدة في حياته.
وإذا دخل الكهول ثورةً أفسدوها. إذا حَالَ الكهول بين الشباب وقيادة الجديد دمروا الحياة، فليس هناك أسوأ من جيل قديم يعتقد بأنّ عقل الجيل أقل حكمة من عقل الجيل الفتيّ الذي فجَّر الحياة ليس أسوأ من جيل الهزائم المقتنع بأنه يصنع الانتصار. ونقول للكهول: إذا ما أردتم أن تكونوا جزءاً من حركة الحياة فما عليكم إلا أن تجدِّدوا عقولكم، فلا يمكن التصدي لعالم جديد بعقل قديم وأدوات معرفية أكل الدهر عليها وشرب. وإذا ما جُدِّدت عقولكم قُوموا بدَوْر الحكماء الناصحين وليس دَوْر الفاعلين. فالعقل الجديد يظل أكثر حيويةً من العقل المُجدَّد.