ضيَّفني صاحبي تمراً، فأكلت حبَّتيْنِ، وأشار إليَّ أن أَستزيد فاعتذرت قائلاً: أنا الآن مصاب بداء السُّكري من الدرجة الثانية تكفيني حبَّتَانِ، لكن صاحبي، وهو من أهل علم الطب، قال لي: إذا أكلتَ ثلاث حباتٍ فلن يصيبك الضرر، أما إذا أكلت حبَّتيْنِ فالضرر حاصل. فأجبتُهُ ضاحكاً: ولكن كمية السُّكر في ثلاث تمرات أكثر من كمية السكر في تمرتين، فكيف يكون الضرر من تمرتين ولا يكون من ثلاث؟
وراح يردد بأن هناك حديثاً شريفاً يُوصي بأكل التمر بالمفرد وليس بالمزدوج، وأن العلم قد أثبت أهمية أكل التمر بالمفرد، وراح يفسر لي الأمر بكلام خالٍ من أي منطق علمي مؤكداً بأن الجسد يتعامل إيجاباً مع العدد المفرد من التمر، وسلباً مع العدد المزدوج. وامتد النقاش لبعض الوقت دون جدوى. وأَنْهَى النقاش بقوله: يا دكتور لا فائدة منكم أنتم العلمانيين. وحين رحت أُميِّز له بين الموقف العلمي والعلماني اعتقد بأني أسخر منه فتكدر خاطره. وحين عدتُ إلى حديث نصيحة أكل التمرات بالعدد المفرد وجدته حديثاً يُنكِره الفقهاء.
إن عقل التمرات الثلاث ينسحب على كثير من طريقة تفكير رهط من الناس، فعقل التمرات الثلاث نمط من العقل الذي لا يفكر. فثلاث تمرات فيها من السكر أكثر من تمرتين شبيهتين بالثلاث ومن حجمها.
ولا يمكن أن ننسب إلى عقل الرسول حديثاً يؤكد بأن هناك ضرراً من أكل العدد المزدوج من التمر، وإن من الصحة أكل العدد المفرد؛ لأن هذا مناقض للعقل، وهذا يعني بأن مريض السكر إذا أكل تمرتين سيصيبه ضرر أما إذا أكل سبعة فستصيبه الفائدة.
ولا يحسبنَّ أحد أن القضية التي أطرح متعلقة بموضوع أكل التمر، بل بطرق التفكير واليقين الذي لا يستند إلى منطق الواقع وقول العلم والحسّ السليم.
وهذا يعني بأن هناك نمطاً من العقل يمتلك من اليقينيات المناقضة للعقلانية ويؤمن بأنها حقائق مطلقة.
وهذا العقل يتعلق بكثير من أمور السياسة والمعرفة والاقتصاد والمصير.
مع أن هناك أساساً دينياً للتحرر من هذه اليقينيات الزائفة المناقضة للعقل يمكن أن يريح المؤمنين.
إِذْ يُرْوَى "أنَّ النبيَّ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". وهذا يعني أن رأي النبي بشؤون الدنيا يظل رأياً خاضعاً للصواب والخطأ.
إن عقل التمرات الثلاث هو ذلك العقل الذي لا يريد أن يُتعب نفسه باستخدام حقائق العلم، ومنطق التفكير الصحيح، ومناهج المعرفة في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية.
وإذا ما تصدى عقل التمرات الثلاث لمهمة صناعة التاريخ، فإنه لا ينتج إلا التأخر التاريخي وتدمير الممكنات التاريخية المتوافرة في الواقع. وعلينا أن نتخيل الفعل السياسي ونتائجه إذا ما مارسه عقل التمرات الثلاث.
وعقل التمرات الثلاث ليس وقفاً على بعض المنتمين للأصولية، وإنما هو أيضاً عقل المنتمين إلى الدكتاتور الذي لا يفكر بالأصل وصدرت عنه أقوال لا قيمة معرفية أو عملية لها، وتتحول إلى حقائق مطلقة تُعلَّم في المدارس.
وعندي أن أكثر المصابين بداء عقل التمرات الثلاث إنما وُلدوا من رحم الأيديولوجيات ولم يستطيعوا الشفاء من هذا التشوه العقلي. فعقل التمرات الثلاث يقوم على التصديق والتسليم بأحكام دون تردد ودون تفكير بواقعية الحكم. فبقايا اليسار القديم الذي لم يستطع تجديد عقله وبقايا القوميين الغارقين في الجَعْجَعة ما زالوا يعتقدون بأن جماعة حاكمة كالجماعة الحاكمة لسورية أرضها محتلة منذ أربعة وخمسين عاماً ويقوم المحتل بقصف مواقعها بين الفَيْنة والأخرى هي جماعةُ مُمانَعةٍ.
فالمنطق يقول بأن المُمانَعة كمصطلح مُتعارَف عليه يعني الاشتباكَ مع عدو محتلّ ويمارس العُدْوان لتحرير الأرض وردّ العُدْوان. إن عقل التمرات الثلاث من شِيمته أن ينكر الحقيقة الواقعية ويُزيِّفها بخطاب "الهَبل الأيديولوجيّ".