تتسع المأساة السورية اتساعاً إلى الحد الذي طال كل الناس، سوى –اللهم- أولئك الذين لا حياة لهم إلا باستمرار هذه المأساة. وما من أحد بقادر على منع الناس من التفكير انطلاقاً من أحزانهم وآلامهم وآمالهم المثقلة بالجراح.
من ذا الذي باستطاعته أن يمنع أمّاً مَا مِن تصوُّر العالم كله انطلاقاً من فَقْدها ابنتها أو ابنها. وحده القاتل المتبلد الحسّ الإنساني قادر على مخاطبة الثكالى اليتامى والمشردين واللاجئين والمهجرين بمفردات الأيديولوجيا الزائفة التي فضحها انفجار هذا المخزون الهائل من العنف ضد الإنسان والوطن والحياة.
غير أن عواطف الألم والحزن يجب ألَّا تحول دون انشغال العقل بأصل القضية وفصلها .
ففضح جوهر القتلة أمر ضروري،
القضية أن هناك سلطة تكونت من حزمة من الغرائز غير المثقفة، وحكمت وتحكم وتسعى لاستمرار حكمها لمجتمع أساس وجوده واستمرار وجوده الثقافة. مجتمع له تاريخ طويل بتثقيف غرائزه حتى وصل منذ فترة غارقة في القدم إلى حال التعايش المتحرر من غريزة التدمير.
بل إن سلطة الدولة لم تقم إﻻ من أجل لجم الصراعات البشرية وللحيلولة دون وصول هذه الصراعات إلى مرحلة التدمير المتبادل.
منذ أربعة عقود نشأت سلطة في سورية مؤسسة على تلبية حاجات الغرائز غير المثقفة لجماعة ما زالت في مرحلة الخضوع لسلطة الغريزة، في مجتمع مثقف ثقافة موضوعية، أي له عاداته وتقاليده وقيمه ومعتقداته وثقافة روحية أي فنه وأدبه وموسيقاه وفكره ووعيه السياسي.
هذه السلطة الغرائزية غير المثقفة بثقافة المجتمع التاريخية والجديدة المعاصرة أشهرت غريزة التدمير ضدّ كل من حاول أَنْسَنَتها وتثقيفها.
بل إن غريزة التدمير قد ازدادت غريزيةً بفضل أساليب التدمير التي لم تعرفها الثقافة الشامية،
وحين أحست هذه الغريزة بخطر الثورة المثقفة، توحدت لديها غريزتَا البقاء والتدمير معاً.
ومع توحُّد هاتين الغريزتين الخطيرتين عندها تولد هذا العنف اللامعقول ضد الوطن والحياة.
إذًا يجب النظر إلى ثورة الشعب السوري بوصفها صراعاً بين ثقافة حبّ الحياة كما يجب أن تكون بكل معاني الحرية والكرامة وتعيُّناتها الثقافية من جهة، وغريزة التدمير المتحدة بغريزة البقاء والتي تعينت ببقاء غريزة التدمير.
وتأسيساً على هذه الفكرة فإن أي تمرد على سلطة الغريزة بسلطة غريزة أخرى ليس تمرداً ثقافياً، بل هو صراع سلطة غريزة ضد سلطة غريزة أخرى.
وفي صراع الغرائز فإن الإِهابَ الأيديولوجي لهذا الصراع إِهابٌ ممزق لا قيمة له في ستر جريمة الغريزة.
هناك معيار أساسي للحكم على أي طرف من أطراف الصراع وفق مبدأ الصراع بين سلطة الغريزة وثقافة الحرية والكرامة: معيار الخطاب والممارسة.
الخطاب الذي لا علاقة له بالممارسة خداع مطلق، والممارسة المتناقضة مع مطلب الحرية والكرامة لا علاقة لها بمطلب الثورة.
وحين تتصارع غريزتان ولديهما خطابان مختلفان في الظاهر فهذا ليس الصراع من التجاوز والتقدم، بل صراع غلبة بين الغرائز. فالثورة ثورة ثقافية متجاوزة لهمجية سلطة الغريزة السائدة والممكنة.
والوضوح والإيضاح حول هذه المسألة على غاية كبيرة من الأهمية في مَسار الكفاح السوري.