تكمن كوميديا النظام السوري القمعي وبخاصة كوميديا رأسه الفارغ في نسيان الزمان. لم يلتفت أحد ممن أغوتهم القوة ومظاهر خنوع المجتمع إلى جريان النهر الذي لا نستطيع أن نستحمّ به مرتين، والنهر هنا هو الزمان.
ففي الوقت الذي ينمو فيه المجتمع ويكبر، وتكبر معه حاجاته، وتجري عليه أحوال الزمان ومنطقه عاش النظام القمعي وهمَ الانتصار الأبدي على الزمان، وهم فكرة الأبد التي راحت القطعان تردّدها دون أن تفكر فيها، حيث الأبد هو الزمان الذي لا نهاية له، عاشت الجماعة الحاكمة لسورية العزلة بلا وعي باغترابها، اغترابها عن حركة العالم وروح التاريخ والمجتمع الذي ينمو ويتطور دون إرادة من أحد، ودون أن يكترث بقوة القمع.
وكان إذا ما انتبه بالمصادفة إلى علامة من علامات التغير أو التأفّف، فإمّا أن يصيبه الهلع فيسعى إلى محوها، أو يحاول أن يرقّع قميصه البالي استجابة لها وإخفاءً لحقيقتها، وفي كلا الحالين هو لا يدري بأنه مخفق بالضرورة، حيث لا ينفع مع التاريخ محو معالمه، ولا ينفع الترقيع مع قميص مهترِئ اهتراءً كلياً.
كان الفرق بين اهتراء قميص السلطة القديم الذي هو انقلاب ما سُمي بالحركة التصحيحية، وتمزّقه الجديد بعد الوراثة فرق جوهري على نحو فاضح وواضح.
فلقد اهترأت السلطة في سورية منذ ما قبل موت حافظ الأسد، حيث زالت الصورة النمطية لهذه السلطة على مستوى العالم بزوال الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو، حيث كانت سلطة الحزب الواحد وما يترتب عليها من أدوات قمع كلية.
ومع زوال هذه الصورة النمطية كانت السلطة قد اهترأت إلى الحدّ الذي بانت كل أطراف جسدها المترهّل، حيث أكل القمع والفساد كلّ ما تبقّى من خطابها الأيديولوجي الزائف.
وبموت مؤسس سلطة القمع والفساد والعصبية الطائفية والغباء التاريخي تَمزّق قميص السلطة، ولم يَعُد فيه إمكان ترقيع واحدة.
لقد ورث الابن فرحِاً سلطة لم يَعد بينها وبين المجتمع أي تطابق يُذكر، ورث الأدوات نفسها والسلوك نفسه والعصبية نفسها، ولكن هيهات له أن يرث خبرة أربعين عاماً من تدمير الحياة الممنهج، هيهات له أن يرث مجتمعاً مات، هيهات أن يرث زماناً مضى، لقد ورث ثورة صامتة وخفيّة عن الذين لا يفكّرون.
وحين انفجر المجتمع بثورته السلمية انفجرت عدمية قميص عتيق، بل لم يكترث بالأجساد الوليدة من رحم الزمان الحي، ناسياً هذا القميص المهترئ أنّ طاقة البشر الحيوية وهي مسلحة بمنطق الزمان وعقله طاقةٌ لا تقاوَم.
وعندما لم يَعد للسلطة أي إمكان لترقيع نفسها بخِرق داخلية ظنّت بأنها قادرة على ترقيعها بقماش مستورَد وذي ألوان متعددة.
لكنه لم يدر بأن القميص المهترئ اهتراءً كلياً لا ينفع معه أي ترقيع، لم يدر بأنّ خرق الترقيع صارت سلطات مستقلة عنه، ولم تَعد تكترث ببقايا خِرق لا قيمة لها.
فإذا الخِرق الروسية والإيرانية وخرق ميليشيات الوسخ التاريخي الطائفية الشيعية تتحوّل إلى السلطة الحقيقية.
وإذا بالمجتمع رغم كلّ الجروح التي أثخنتها السلطة في جسده صار قوة رَفضٍ علنية، ولم تَعد صامتة كما في الماضي.
إنّ منطق الزمان التاريخي أقوى بكثير من لا عقلانية سلطة تعتقد بأنّها هزمت التاريخ، لم تدرِ بأنها بتحطيم إرادة التاريخ تحطّم معها بنيتها نفسها، وكلّ متأمّل بالواقع الآن يدرك مأساة آثارِ فعل الكوميديا السوداء.