لتوضيح العنوان الغريب نوعاً ما، سأبدأ بتقديم قصّة إنسانية تجمع أطراف المشكلة وتُسلّط الضوء عليها.
سيدة في الخامسة والسبعين من عمرها، تقيم في بلد أنهكتها الحرب منذ عشرة أعوام، تُوفي زوجها منذ عامين ونيّف، لها أربعة أولاد، أحدهما طبيب أسنان مختصٌّ بالتقويم يدفع سنوياً ما لا يقل عن 200 ألف يورو ضرائب على الدخل، مقيم في ألمانيا منذ عشرين عاماً، وألماني الجنسية منذ خمسة عشر عاماً.
وثانيهما صيدلاني حاصل على الدكتوراه في علم الصيدلة، يدفع سنوياً ما لا يقل عن 60 ألف يورو ضرائب دخل، مقيم في ألمانيا منذ سبعة عشر عاماً وألماني الجنسية منذ سبعة أعوام.
في آذار من عام 2011 قامت ثورة شعبية في سورية ضد نظام الحكم الديكتاتوري برئاسة بشار الأسد، وبعد أقلّ من عام واحد، ونتيجة لاختيار النظام السوري الحل العسكري في مواجهة المظاهرات السلمية، تحول الصراع إلى حرب حقيقيّة، وتدخلت أطرافٌ إقليمية ودولية كثيرة فيها.
كان من نتائج هذه الحرب قتل 350 ألف مواطن سوري موثقين بالاسم وَفْق إحصائيات الأمم المتحدة، ونزوح ما يقرب من 6 ملايين داخل سورية، وتهجير ما يقرب من 5.5 مليون خارج سورية، وصل منهم ما يقرب من نصف مليون إلى ألمانيا وحدها.
كذلك تقدّر برامج الأمم المتحدة تكاليف إعمار ما دمرته الحرب بـ 400 مليار دولار أمريكي على الأقل. وقد خلّفت الحرب ما يقرب من مليون ونصف إعاقة جسدية، مع تسرُّب جيل كامل من الأطفال خارج المدارس والتعليم.
كان للقرار الذي اتخذته الحكومة الألمانية باستقبال موجات اللاجئين بما فيهم السوريون تداعيات كبيرة. فمن جهة أولى، لم يكن لدولة بحجم ألمانيا وتاريخها وعراقتها أن تغضّ الطرف عن هذه المأساة الإنسانية، وهذا الموقف لا تتخذه سوى الدول التي تتحمّل المسؤولية أمام الإنسانية في مواجهة كوارث الطبيعة وكوارث الحروب، ولم يكن بمقدور أي بلد في أوروبا سوى ألمانيا أن تحمل هذا العبء. ومن جهة ثانية، أثَّر هذا القرار على المجتمع الألماني وعلى السياسة الألمانية عموماً.
فلأول مرّة بعد الحرب العالمية الثانية يتمكَّن اليمين المتطرّف من دخول البوندستاغ، فقد حقق حزب (البديل من أجل ألمانيا) فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2017 بسبب رفعه لواء مناهضة سياسة الحكومة بشأن المهاجرين واللاجئين.
من ناحية خاصّة، وفيما يتعلق بحالة السيدة ذات الـ 75 عاماً، فقد قامت أغلب الولايات الألمانية بإغلاق أبواب لمّ شمل الأهل بالنسبة للمواطنين الألمان من أصول مهاجرة.
فقد تم إقرار قوانين تمنع منح ذوي هؤلاء المواطنين حق القدوم إلى ألمانيا والعيش في كنف أولادهم.
لم تسمح السلطات الألمانية لهذه السيدة بالحصول على تأشيرة لزيارة ولديها. ولم يتمكن هؤلاء من لمّ شملها رغم المحاولات المتكررة.
ورغم أنّ هذه السيدة لن تكلّف الدولة الألمانية ولا دافع الضرائب أي مبلغ مالي، فولداها بحالة مالية ممتازة تجعلهما قادريْنِ على إعالتها ودفع تكاليف تأمينها الصحي وكل مستلزمات حياتها.
بالمقابل، فإنّ القوانين السارية تمنح اللاجئين حق لمّ شمل أُسَرهم بعد حصولهم على حق اللجوء بقرار من السلطات المختصة.
ويستند الحق في لمّ شمل الأسرة إلى الموادّ الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وخاصة منها المادة 23 التي تنصّ على:
(الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة).
والمادة 26 التي تنص على:
(الناس جميعاً سواءٌ أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساوٍ في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعّالة من التمييز لأي سبب، كالعِرْق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب).
وكذلك على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص في المادة 14 منها على ما يلي:
(يجب تأمين التمتع بالحقوق والحريات المعترَف بها في هذه الاتفاقية دون أي تمييز، وتحديداً ذاك القائم على الجنس أو العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الانتماء إلى أقلية وطنية، أو الثروة أو الولادة أو أي وضع آخر).
استناداً إلى هذه المواد التي تضمن حقوق الإنسان بحياة كريمة، استطاع مئات الآلاف من اللاجئين ضمّ أُسَرهم بعد حصولهم على قرار من المكتب الاتحادي للهجرة.
ومعلوم أنّ هؤلاء ترعاهم الدولة وتقدّم لهم المعونة اللازمة للعيش الكريم، وهي تشمل بدلات الطعام والسكن والتأمين الصحي، إلى أن يتمكنوا من الانخراط بالدورة الاقتصادية وإلى أن يتكيّفوا مع الحياة الجديدة من خلال اندماجهم بالمجتمع الألماني. لكن المواطن الألماني، كما هو حال أبناء السيدة المذكورة أعلاه، لا يمكنهم أن يستقدموا والدتهم للإقامة معهم.
فهل هذا الوضع عادل، وهل هو منطقي أو معقول؟ سنحاول الإجابة على هذه المُفارَقة من خلال مقالة ثانية.
Author
-
محامٍ سوري، مؤسس ومدير سابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة المسجلة في لاهاي