نداء بوست -محمد جميل خضر- عمّان
في دمشق حيث ووري قبل عام جسده الثّرى، لا تزال روح الفنان السوري الخالد حاتم علي (1962-2020)، تحلّق هناك، ترسل التحية إلى شموخ قاسيون، تزنر صبايا العطر بإكليل من خالص الياسمين.
ولعل أول ما يستحقه علي في الذكرى الأولى لرحيله بعيداً عن شامه وحارات صباه، هو توضيح موقفه من الثورة السورية، وبالتالي موقفه من النظام الحاكم هناك بأمر إيران وروسيا وقوى إقليمية ودولية أخرى. فهو كان (قولاً واحداً) مع ثورة شعبه ضد الظلم والقهر والاستعباد، ولكن صاحب "التغريبة الفلسطينية" اختار شكلاً من المعارضة، ارتقى به فوق المعارضات الصوتية، أو الربحية، أو الأجنداتية.
يوم رحيله المفجع (في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2020)، كتبتُ على صفحتي الآتي:
"حاتم علي.. كلُّ فَصْلٍ بعدَكَ خريف
في أكثرِ مشاهد "التغريبةِ الفلسطينية" انغراساً في ذاكرتي ووجداني، تُفجَعُ أسرةُ المناضِل أبو صالح (جمال سليمان) بخبر استشهاد ابنهم حسن (شقيق أبو صالح أحد قادة ثورة الريف الفلسطيني وشقيق علي الذي يمثل في العائلة الابن الذي يواصل تعليمه ويُعلي من شأن طموحاته).
يبتعد علي عن نواح أمّه وبكاء العائلة على شهيدها، ويصفو وحده عند أطراف المخيم، ويقدم كاتب السيناريو وليد سيف والمخرج حاتم علي الذي ودّعنا اليوم، مونولوجًا نثريّاً وجدانياً بليغاً، يحكي فيه عليّ عن خصوصية العلاقة بينه وبين شقيقه حسن الأقرب إليه عمراً، وعما كان من الحياة معهما، وتالياً النص الذي ورد في ذلك المشهد الخالد:
"حسن.. ذلك الشابُّ النبيلُ الذي قاسَمني وقاسَمْتُه عُمْرَ الطّفولَةِ وشِراعِ السِّنْديان.. ذلك الطِّفلُ الذي عَرَفَ كيفَ يَحُلُّ لُغْزَ الأرضِ وطَلاسِمَ الماء.. كنتُ أتعلَّمُ لغةَ الكِتابةِ وقواعِدَ النَّحو.. حينما كانَ يَتَعلُّمُ لُغَةَ النَّهْرِ والصَّخْرِ والسُّنْبُلَة.. كُنْتُ أمْتَطي المُعْجَمَ حينَ كانَ يَمْتَطي الرِّيحَ والعَواصِف.. كنتُ أكْتَشِفُ الأسْئِلَة، حينَ كانَ يَعيشُ الأَجْوِبَة.. كانَ يظنُّ أنّي الجُزْءُ الذي لمْ يَكُنْه.. والآنَ أعْرِفُ أنَّهُ الجُزْءُ الذي لمْ أكُنْه.. هناكَ في مكانٍ ما أجْهَلُهُ وَتَعْرِفُهُ النُّجومُ، يَرْقُدُ أخي حَسَن.. يَلْبَسُ جِلْدَ الأرْضِ التي أَحَبَّها، وَيَسْتَعيرُ مِنْها نَبْضَهُ الجديد.. أنا هُنا أبْحَثُ عنِ الوَطَنِ الضَّائِعِ في مَوّالٍ شَعبي.. وَهُوَ هُناكَ يَكْتَشِفُ الأرضَ فِيه.. على عَيْنَيْهِ ينْمو عُشْبُها وَزَعْتَرُها.. ومن جُروحِهِ تَتَفَتَّحُ شَقائِقُ النُّعمانِ وَعُروقُ الشُّومَرِ البَرِّيّ.. هُناكَ هُوَ، تَكْتُبُهُ الأرْضُ وَتُعيدُ كِتابَتَهُ في كلِّ فَصْلٍ من فُصولِها.. وأنا.. الذي سَرَقْتُ مِنْهُ الكِتابَ والمَدْرَسَةَ والمِحْبَرَة.. أنا هُنا أبْحَثُ عن الكَلِمَةَ التي تَصِفُهُ.. أسْتَعيرُ جِلْدَهُ لِأكْتُبَ عليهِ شِعْري فِيه.. ولِأشْعُرَ بِبَعْضِ الرِّضا.. لَعَلِّي أُتابِعُ حَيَاتي مِن جَديد…
حَسَن.. أيُّها الشّابُّ النَّبيلُ الذي ظَلَمْناهُ وَأَنْصَفَتْهُ الأرْض..".
حاتم علي ووليد سيف، شكّلا في فورةِ الدراما العربية ثنائيّاً استثنائياً بكلِّ ما تحملُ الكَلِمةُ من معنى. وَقَدّما معاً، وثالثُهم الممثل جمال سليمان: "صقر قريش"، ثلاثية الأندلس، "صلاح الدين"، إضافة لمسلسل "عمر" الذي لم يشارك فيه جمال سليمان. لكن تبقى "التغريبة الفلسطينية"، وليس بسبب انحيازي الفطريّ لِفلسطيني، وإن كان ذلك وارِداً، علامةً فارِقَةً، بِحَق، في تاريخِ الدّراما العربية، ووثيقةً حيّةً وعابِقةً بالسِّحْرِ والمعنى حَوْلَ مأساةِ الشَّعبِ الفلسطينيّ ونضالاتِه التي خانَها القريبُ قَبْلَ الغَريب.
مفجعٌ رحيلك يا صديقي، يا عميق المعارف وزميل كتابة القصة وصاحب الضحكة التي ملأنا بها شوارع عمّان في خريف العام 2004، واعلم يا كُحْلَ العَيْنِ وعَبَقَ الجولان وَجَارَ مخيّم اليرموك، أنَّ كلَّ فَصْلٍ بعدَكَ خريف".
في ذكرى رحيله الأولى، كتب المهندس حمزة خضر الناشط في حركة المقاطعة العالمية (bds)، على صفحته في الفيسبوك ما يلي: "حاتم علي فنان.. طبعاً الفنون المفروض مهنة وموهبة وصناعة، وإطلاق وصف فنان على العاملين فيها هو أمر مفروغ منه، بس في زمن كله ولدنة وعهر ومياعة بحجة الفن بتصير هاي الكلمة إلها وزن كبير.
حاتم علي كان يحكي بلسان الناس، صورهم عنجد، كل واحد فينا شاف حاله بعمل من أعماله، كل واحد فينا فيه أجزاء منه تشكلت في مسلسلات: الفصول الأربعة، الزير سالم، صلاح الدين، الملك فاروق، مرايا، مسلسلات الأندلس، التغريبة الفلسطينية.
خلاصته كل شخص في مجال الفن يقيّم حاله، إذا ما كان قريباً من الناس وهمومهم، وما قدر يعبّر عنهم بكل سلاسة ويحكي بلسانهم، لازم يعرف إنه مش فنان".
الروائي الفلسطيني/ الأردني إبراهيم نصر الله كتب على صفحته: "في ذكرى رحيل الكبير حاتم علي: حُلم حاتم علي… حُلمنا الذي لم يتحقّق بعد".
ثم أكمل نصر الله استذكاره لعلي، كاتباً عن تجربتهما التي لم يكتب لها النور، عندما وافق حاتم علي على إخراج مسلسل مأخوذ عن رواية نصر الله "زمن الخيول البيضاء": "في صيف 2008 اجتمعنا في عمان. كان حلم تقديم رواية "زمن الخيول البيضاء" في مسلسل تلفزيوني، قد أصبح حقيقةً؛ حاتم علي الذي قرأ الرواية، جاء إلى عمان متحمّساً، حتى أنه رفض الحديث في أي موضوع ماليّ: "ما دام المسلسل عن فلسطين، سنبدأ العمل، وبعدها نتحدث في التفاصيل المالية". هذا ما قاله لأخي طارق زعيتر، منتج العمل، الذي كان سعيداً في تلك الأيام بالنجاح الكبير للجزء الأول من مسلسل "باب الحارة" الذي أنتجه".
ثم أدرج نصر الله في مقاله حول علي، ما كتبه حاتم حول الرواية: "كتب حاتم علي، وسأُدرج هنا كلمته كاملة، لا لشيء، إلا لأنها تعبّر عن جوهر هذا المخرج الكبير الذي أدمى غيابه قلوب الناس: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، مقولة روّج لها الغاصب طويلاً، كي يربح التاريخ بعدما ربح الأرض. "زمن الخيول البيضاء" مسلسل ليس عن القضية الفلسطينية، بل عن هؤلاء الذين عاشوا فوق هذه الأرض، يعتمد على الوثيقة المكتوبة والشفهية كي يعيد خلق حياة هؤلاء بتفاصيل ثرية، بدءاً من نهايات العهد العثماني، مروراً بالاستعمار البريطاني، وانتهاءً بالاحتلال الصهيوني عام 1948".
والمعروف أن سبب فشل مشروع المسلسل، هو عدم موافقة أي تلفزيون عربي على إنتاجه.
لروحك الرحمة والسلام واليقين أيها الصديق العميق المشعّ بكل معنى بهيٍّ أصيل.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية