تبدو إدارة بايدن أكثر صراحة من سابقتها في مجال حقوق الإنسان، لكن المفاضلة مع تعزيز المصالح الوطنية أمر لا مفرّ منه.
فمنذ عام تقريباً، وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة ووعد بوضع حقوق الإنسان محطَّ اهتمام سياسته الخارجية في الشرق الأوسط. وقد أحدث هذا النهج موجاتٍ من الصدمة في العديد من عواصم الشرق الأوسط، حيث اعتاد الحكام والملوك والرؤساء على الموقف المتساهل تجاه حقوق الإنسان الذي روَّج له الرئيس السابق، دونالد ترامب. ويبدو الآن أنه في حين أن الرئيس بايدن وفريقه يتحدثون بصراحة أكبر بشأن قضية حقوق الإنسان، فقد تعلّموا أيضاً مدى صعوبة إيجاد التوازن الصحيح بين الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز المصالح الوطنية. ففي تصريحاته في الأسبوع الماضي بإعادة تكريس مركز "دود" لحقوق الإنسان بجامعة "كونيتيكت"، أدان بايدن القوى الاستبدادية التي قال: إنها تكتسب قوة في جميع أنحاء العالم. وأضاف: "يجب أن تسعى الولايات المتحدة دائماً إلى أن تقود بالقُدوة (المثال الذي نقدمه) وليس بالقوّة (واتخاذ قوتنا مثالاً) ".
ولكن ما هو المثال الذي تضربه الإدارة الحالية؟
بينما تهدف الولايات المتحدة إلى فكّ الارتباط بالشرق الأوسط (حتى وهي تقوم بتأمين مصالحها الحيوية في المنطقة)، تبحث الصين وروسيا عن طرق لزيادة نفوذهما، وعندما تكون مبيعات الأسلحة والمصالح الاقتصادية على المحكّ، فإن حقوق الإنسان لن تكون أبداً ذات أولوية عالية. إذن كيف غيّرت السنة الأولى من رئاسة بايدن الواقع المرير في الشرق الأوسط وكيف ستبدو معاركه المستقبلية؟
الأسد المنتصر
بعد عقد من الحرب الدموية التي قُتل خلالها نظام الرئيس السوري بشار الأسد نصف مليون مدني سوري وأجبر ملايين آخرين على الفرار من البلاد، عاد ليكون رئيساً. فقد أُعيد فتح السفارة الإماراتية في دمشق عام 2018، ثم انضم الأردنيون للجوقة أيضاً. وبتأمينه من قِبل الجيش الروسي والإيراني، أشار الأسد للعالم إلى أنه كان سيبقى ويقاتل حتى النهاية.
بسبب عدم وجود رغبة أو شهية للانخراط في الأوضاع السورية الفوضوية، وبؤس دمشق، والإطاحة بالأسد وتكرار أخطاء الحرب في العراق، قرر الأمريكيون تشديد العقوبات على نظام الأسد. وقد قدّم قانون "قيصر" عقوبات ثانوية ضد جميع الأطراف التي كانت على استعداد للتعاون مع سورية تحت حكم نظام الأسد. ومع ذلك، فقد حصل الأردنيون، والإماراتيون على ما يبدو، على تنازُل وسيواصلون التعامل مع الأسد دون تحمُّل العواقب. من الممكن لأي شخص أن يتجول في الجناح السوري في "إكسبو 2020" في دبي الذي يعرض بفخر "إنجازات" البلاد كما لو أن القرى والمدن السورية بأكملها لم تُمحَ من على وجه الأرض ولم يكن ملايين اللاجئين يعيشون في المنفى، ويكافحون من أجل البقاء.
قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين في مؤتمر صحافي الأسبوع الماضي: "لا تنوي الولايات المتحدة دعم أي جهود لتطبيع العلاقات مع بشار الأسد أو إعادة تأهيله حتى يتم إحراز تقدُّم لا رجوع فيه نحو الحل غير المُسيَّس في سورية". ومع ذلك فمن الواضح أن الولايات المتحدة لن تقف في طريق شركائها الإقليميين الذين يحاولون "التطبيع" مع الأسد مع زيادة أنشطتهم الدبلوماسية والتجارية.
أصدقاء مع مزايا
خلال الأشهر القليلة الماضية، التقى الرئيس بايدن بالعديد من قادة الشرق الأوسط -العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. (الأولان قاما بزيارات رسمية إلى واشنطن، بينما عُقد الاجتماع مع أردوغان في حزيران/ يونيو في بروكسل) بعد فترة وجيزة من انتخابه. وخصَّ بايدن بعض دول الخليج بالذكر، وخاصة المملكة العربية السعودية، بأنها "دول منبوذة"، وأخبر مصر أن مخاوف حقوق الإنسان ستكون محورية في العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر. وسرعان ما تم الشعور بتأثير هذه التصريحات. ففي شهر شباط/ فبراير، تم إطلاق سراح الناشطة السعودية الحقوقية لجين الهذلول من السجن، بينما أفرجت مصر عن ستة نشطاء في تموز/ يوليو. وقد قام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وكذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان، بزيارة البيت الأبيض. في الوقت نفسه، ينتقد نشطاء حقوق الإنسان في الولايات المتحدة والشرق الأوسط بايدن لكونه ليِّناً للغاية مع حُكّام الشرق الأوسط الذين يواصلون سجن نجوم "تيك توك" ونشطاء حقوق الإنسان والمنتقدين، وإخفاء الإحصائيات الخاصة بالعاملين في الدولة من المصابين أو القتلى الذين ماتوا أو أصيبوا في مواقع عملهم.
هذه ليست سياسة جديدة. فقد قامت الإدارات الأمريكية المتتالية بأعمال تجارية (وباعت أسلحة بمليارات الدولارات) لأنظمة الشرق الأوسط على الرغم من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. ولم يكن عدم قدرة النساء على الحصول على رُخص قيادة، ولا حظر الأحزاب السياسية، أو سجن نشطاء حقوق الإنسان، أسباباً كافية لإلغاء مبيعات الأسلحة أو تقليل العلاقات، حتى عندما كانت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي سادت في الشرق الأوسط.
ما هي احتمالات أن تكون واشنطن اليوم، عندما ينظر العديد من اللاعبين الإقليميين إلى واشنطن على أنها تلعب دوراً ضعيفاً وتتطلع إلى مغادرة الميدان، قادرة على النهوض بحقوق الإنسان والدفاع عنها؟ وكيف ستؤثر هذه التجربة على الديمقراطيات الأخرى التي تتعرض لضغوط كبيرة وأحياناً تهديدات نيابة عن الدول غير الديمقراطية عندما تكون قضية حقوق الإنسان موضع تساؤل؟
مستقبل حقوق الإنسان في عالم متعدِّد الأقطاب
اندلع عَداء دبلوماسي بين المملكة العربية السعودية وكندا في عام 2018 عندما انتقدت الأخيرة الرياض علناً بشأن اعتقال نشطاء حقوق الإنسان السعوديين. وخلال أيام قليلة فقط، أعلنت المملكة العربية السعودية أن السفير الكندي شخص غير مرغوب فيه وأمرته بمغادرة البلاد، وتم تعليق جميع المعاملات التجارية والاستثمارات الجديدة المرتبطة بكندا، وتم إلغاء الرحلات الجوية المباشرة بين الرياض وتورنتو.
كما غرد الحساب الرسمي لـ وزارة الخارجية السعودية: "الموقف الكندي انتهاك خطير وغير مقبول لقوانين وإجراءات المملكة. بالإضافة إلى انتهاك قضاء المملكة وخرق لمبدأ السيادة".
بعد عامين فقط من بَدْء الحرب الدبلوماسية والتجارية بين البلدين، قررت كندا مضاعفة كمية الأسلحة التي تبيعها للرياض، لتُحجم عن خسارة العقود المربحة التي أبرمتها معها. فكندا ليست وحدها، فبالرغم من ضغوط منظمات حقوق الإنسان، تواصل الدول الغربية بيع الأسلحة للأنظمة البغيضة، وتغضّ الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان.
فقد قرر باراك أوباما تجنُّب مصر بعد انقلاب 2013 الذي أنهى حكم محمد مرسي، وهبّت روسيا لعرض أسلحتها وطائراتها المقاتلة الحديثة للبيع لنظام الانقلاب. وقد زعم تحقيق معمَّق أجرته 17 مؤسسة إخبارية دولية كبرى أن شركة NSO Group السيبرانية التي تتخذ من إسرائيل مقراً لها باعت برامج تجسُّس مستخدَمة لاستهداف الصحافيين والنشطاء والسياسيين في عشرات البلدان، بعضها في الشرق الأوسط، بينما لعبت الطائرات بدون طيار المصنوعة في إسرائيل دوراً رئيسياً في حرب أذربيجان الأخيرة مع أرمينيا. ويقول العديد من رؤساء هذه الشركات بشكل غير رسمي إنه إذا لم تبع إسرائيل أو الولايات المتحدة هذه الطائرات بدون طيار أو التقنيات، فإن آخرين سيفعلون ذلك بالتأكيد.
وكما تقول زهافا غالون، رئيسة منظمة "زولات" غير الحكومية التي تدافع عن المساواة وحقوق الإنسان، والرئيسة السابقة لحزب "ميرتس" اليساري في البرلمان الإسرائيلي "هناك ديناميكية لطيفة بين محاولة تعزيز مصالح الدولة وحماية حقوق الإنسان. غالباً ما يأتي تعزيز مصالح المرء الخاصة على حساب حماية حقوق الإنسان. والقدرة على القيام بالأمرين محدودة. فأولئك الذين يعتقدون أنه لا توجد مشكلة في بيع أسلحة متطورة للأنظمة الاستبدادية يشيرون إلى الدول الأوروبية التي تحافظ أيضاً على علاقات مع أسوأ الديكتاتوريين في العالم وتبيعها أسلحة. فلقد وقَّعت كلُّ هذه الدول على إعلانات حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة، ولو كان الجميع يتصرف وفقاً لهذه المبادئ، فإن الوضع ما كان سيصير لما هو عليه اليوم ".
وتضيف غالون أنه: "بالنظر إلى واقع عالم متعدِّد الأقطاب تتنافس فيه دول كثيرة في الأسواق العالمية، غالباً ما يُفسِح الهدفُ النبيلُ المتمثلُ في حماية حقوق الإنسان الطريقَ أمام أولويات أخرى".
المصدر: جيروزاليم بوست / ترجمة: عبد الحميد فحام