المصدر: نيويورك تايمز
ترجمة: عبدالحميد فحام
حسناً، يوجد لديَّ سؤال واحد فقط: هل يجب أن أشير إلى أن قيام الرئيس بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان يُعيد بالفعل تشكيل سياسات الشرق الأوسط- غالباً للأفضل؟ أم أنتظر بضعة أشهر وألّا آخُذ على مَحمل الجد ما قاله لي دبلوماسي خليجي -على غير المعتاد- عن مهرجان المصالحات "العربية-العربية" و"العربية-الإيرانية": "إنه المزاج العام"؟
المزاج السائد هو ما يُعيد توزيع أحجار اللعب بقوّة على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط- وهي الأحجار التي تم تجميدها في مكانها لسنوات. فكان قرار بايدن الانسحاب من أفغانستان وإخبار المنطقة بمثابة الإيعاز الذي يقول: "أنتم وحدكم في دولكم. إذا كنتم تبحثون عنّا، فنحن سنكون في مضيق تايوان. وافُونا بأخباركم وقُوموا بإرسال النفط. وداعا."
لكن العامل الثاني الذي يزيد من قوة الضغط الناجم عن مغادرة أمريكا هو المناخ، المتمثّل في موجات الحر والجفاف والضغوط الديموغرافية وانخفاض أسعار النفط على المدى الطويل وارتفاع إصابات "كوفيد-19".
في الواقع، أودّ أن أزعم أننا بصدد الانتقال من شرق أوسط شكّلته قوى عظمى إلى شرق أوسط شكّله المناخ نفسه. وسيُجبِر هذا التحوّلُ كلَّ زعيم على التركيز أكثر على بناء المرونة البيئية لاكتساب الشرعية بدلاً من اكتسابها من خلال مقاومة الأعداء القريبين والبعيدين. ما زلنا في بداية هذا التحوّل النموذجي من المقاومة إلى المرونة، حيث بدأت هذه المنطقة في أن تصبح شديدة الحرارة، ومُكتظّة بالسكان، ومُتعطّشة للمياه بدرجة لا تسمح لها بالحفاظ على استدامة الحياة.
وبالعودة إلى بايدن فلقد كان على حق حيث كان الوجود الأمريكي في أفغانستان والضمانات الأمنية الضمنية في جميع أنحاء المنطقة يعملان على تحقيق الاستقرار وتمكين الكثير من السلوك السيئ، المقاطعات والاحتلال والمغامرات المتهورة والتدخلات الوحشية.
دعمنا القوي للحلفاء التقليديين، سواء كانوا يتصرفون بشكل سيئ أو جيد، شجّع الناس على تجاوُز الولايات المتحدة، دون خوف من العواقب. أنا أتحدث عن التدخل السعودي والإماراتي في اليمن ومقاطعتهم لقطر، وعمليات تركيا المختلفة في ليبيا (أو مع الأكراد في سورية والعراق)، والرفض الغبي للحكومة الأفغانية الذي سقط الآن للتفاوض مع طالبان وإسرائيل بما تقوم به من توسيع المستوطنات في عمق الضفة الغربية.
لقد كان انسحاب الرئيس باراك أوباما من المنطقة ورفض الرئيس دونالد ترامب الانتقام من إيران -بعد أن أرسلت موجة من الطائرات بدون طيار لمهاجمة منشأة نفطية سعودية رئيسية في عام 2019- علامات التحذير على أن أمريكا قد سئمت من التدخل والتحكيم في حروب الشرق الأوسط الطائفية. والآن بايدن جعل تلك التحذيرات رسمية.
في الأشهر الأخيرة، بدأت المملكة العربية السعودية في إصلاح علاقاتها المقطوعة مع إيران وقطر، وتقليص مشاركتها في اليمن. كما أن دولة الإمارات العربية المتحدة انسحبت من الصراعات في ليبيا واليمن، وأصلحت علاقاتها مع إيران وقطر وسورية. وكان العراق يتوسط بين إيران والسعودية.
ويدرك كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية أنه مع انسحاب أختهم الكبرى "الولايات المتحدة"، لا يمكنهم تحمُّل الأعمال العدائية مع إيران وهي أكبر منهم بالنظر إلى قدراتها، ويدرك الإيرانيون أنه مع استمرار تعرُّض بلادهم للعديد من العقوبات، فإنهم يحتاجون إلى أكبر قدر ممكن من الانفتاح على العالم.
وأقام كل من البحرين والإمارات علاقة مفتوحة مع إسرائيل، والمملكة العربية السعودية أقامت معها علاقة سرّية. وفي غضون ذلك، تعمل مصر وإسرائيل معاً لنزع فتيل التوتر مع حماس في غزة.
لكن للأسف، أصبح الانسحاب الأمريكي أيضاً بطاقة مجانية لخروج رئيس النظام السوري المنبوذ من السجن بعد أن كان منبوذاً لفترة طويلة والمدعوم من إيران، وهو متّهم بارتكاب إبادة جماعية في قمع ثورة وقتل مدنيين. ولأول مرة منذ عقد، تلقى الملك عبد الله ملك الأردن مؤخراً مكالمة هاتفية من الأسد.
وقال القصر الأردني إنه تم "بحث العلاقات بين البلدين الشقيقين". تريد مصر والأردن محاولة فِطام سورية والعراق، الركيزتين التوأمين للمنظومة العربية، عن إيران الشيعية. وتريد مصر أيضاً تصدير غازها إلى لبنان، ويريد الأردن الذي يعاني من ضائقة مالية إعادة العلاقات التجارية المربحة مع سورية.
وقد أنهت كل من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حالة الجمود الكبير التي سيطرت على علاقاتهم مع تركيا، على أمل إعادتها إلى الحظيرة الإقليمية كقوة سنية موازنة لإيران.
ومع ذلك، ربما تعتقد إيران أن الولايات المتحدة، بالرغم من إصرارها على العقوبات، قد فقدت أي استعداد للقيام بعمل عسكري لكبح مساعي طهران لتخصيب ما يكفي من اليورانيوم لتصبح دولة تمتلك أسلحة نووية.
قال مارتن إنديك، مبعوث الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط، والذي يقوم بإعداد كتابه الجديد، "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط": "الولايات المتحدة لا تنسحب بالكامل، لكنها تتراجع، وجميع شركائها العرب السُّنَّة يعملون الآن لحماية أنفسهم -ولتحقيق الاستقرار في المنطقة- في عصر لن تكون فيه الولايات المتحدة مهيمنة هناك".
وبالمناسبة يُعتبر هذا الكتاب تأريخاً رائعاً لكيفية استخدام الولايات المتحدة لصنع السلام لتحلّ محل الاتحاد السوفيتي القوة الأجنبية المهيمنة في المنطقة.
ويضيف إنديك: "لكن الولايات المتحدة ستظل بحاجة لردع إيران، إذا طورت قدرة نووية- ونزع فتيل صراعات أخرى."
ولكن القدرة على تشكيل هذه المنطقة تأتي في أشكال عديدة، فتماشياً مع موضوع كتاب إنديك، كنت أزعم أنه مثلما حللنا في يوم من الأيام محلّ السوفيت بصفتهم المُشكّل المهيمن في المنطقة، فإن التغير المناخي يحلّ الآن محل أمريكا باعتباره القوة المهيمنة.
ففي الشرق الأوسط، وتحت تهديد التغير المناخي، لن يتم الحكم على القادة من خلال مقدار مقاومة بعضهم البعض أو القوى العظمى، ولكن من خلال مقدار المرونة التي يُبَيِّنُونها لشعوبهم ودولهم في وقت يقوم فيه العالم بالتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، في وقت واحد عندما يكون عدد سكان هائلاً في جميع الدول العربية الإسلامية تحت سن الثلاثين وفي وقت يتزايد فيه تغير المناخ.
ذكرت الأمم المتحدة مؤخراً أن أفغانستان تعرضت لأسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 30 عاماً.
إن ذلك الجفاف يسحق المزارعين، ويرفع أسعار المواد الغذائية ويضع 18.8 مليون أفغاني -ما يقرب من نصف السكان- في حالة انعدام الأمن الغذائي. وها قد استولت "طالبان" على البلاد.
عِلاوة على الضغوط الناجمة عن فيروس "كوفيد -19"، شهدت إيران الصيف الماضي أعمال شغب مميتة بسبب المياه في جنوب غربها الجاف، ومن المتوقع أن يصبح مناخها أكثر سخونة وجفافاً. وتحاول مصر مواجهة ارتفاع البحر المتوسط الذي يدفع بمياه البحر المالحة إلى أنظمة الري في سلة الخبز الخاصة بالبلاد في دلتا النيل.
ومن الممكن أن تخوض مصر وإثيوبيا بالفعل حرباً على سدّ حبس المياه الذي أقامته إثيوبيا عند منبع النيل.
كما أن إسرائيل وقّعت للتوّ اتفاقية لمضاعفة المياه العذبة التي توفرها للأردن، أحد أكثر دول العالم جفافاً. وقد أحدث رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو موجة غضب من خلال الزعم -بجنون وبدون أي حقائق- أن خليفته، نفتالي بينيت، تعرّض للخداع لأنه "عندما يعطي الملك عبد الله الماء، فإن الملك يعطي النفط لإيران في نفس الوقت".
هذه هي المرة الأولى التي أشهد فيها نتنياهو يندد بمنافس له؛ لأنه لم يحافظ على الأرض بل لأنه فرّط بالكثير من الماء، إن هذا حقاً علامة على نهاية العالم.
في الواقع، قد يكون هناك يوم، قريباً جداً، ستحتاج فيه الولايات المتحدة إلى العودة إلى الدبلوماسية الإسرائيلية الفلسطينية النشطة -ليس على أساس الأرض مقابل السلام- ولكن بشأن الشمس والمياه العذبة من أجل السلام. ويقدم (صدى السلام في الشرق الأوسط/ إيكو بيس ميدل إيست)، وهو تحالُف يضم خبراء بيئيين إسرائيليين وفلسطينيين وأردنيين، مؤخراً مثل هذه الإستراتيجية المسماة "الصفقة الخضراء الزرقاء".
ما هو الحلّ الذي ستقدمه؟
أخبرني "جيدون برومبرغ"، مدير إيكو بيس في إسرائيل: "يتمتع الأردن، بمناطقه الصحراوية الشاسعة، بميزة نسبية لإنتاج كميات كبيرة من الكهرباء الشمسية الرخيصة لتلبية احتياجاته وأيضاً البيع للشبكات الإسرائيلية والفلسطينية لتوليد الكهرباء لمحطات تَحْلِيَة المياه التي يمكن أن تزوّد الأطراف الثلاثة جميعهم بالمياه العذبة الوفيرة ".
يمكن أن يوفر هذا النوع من البيئة الدبلوماسية طريقة مستدامة للولايات المتحدة لإعادة الانخراط في الشرق الأوسط بعد أن يفرض المناخ ترتيباته الخاصة حيث سيكون جميع الأطراف هناك مترابطين بيئياً، لكن لديهم علاقات غير صحية بدلاً من تلك الصحية.
لذا يمكن لأمريكا أن تصبح الوسيط الموثوق به الذي يصوغ ترابُطات صحية، ليس كبديل عن صفقة الأرض مقابل السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ولكن كبديل ضروري لبناء الثقة.
مرحباً بكم في الشرق الأوسط الجديد الحقيقي- الشرق الأوسط الذي يشكّله المناخُ.