نداء بوست – ملفات – عمار جلو
قفز الفكر السياسي الاثنا عشري قفزته الكبرى إثر نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 وما تلاها من احتكار للسلطة من قِبل العمائم، ومن ثم اغتصابها من قِبل العمائم التي تبنَّت "ولاية الفقيه" التي نادى بها روح الله الخميني، فيما وضعت التعديلات الدستورية عام ١٩٨٨ تاج الولاية المطلقة للفقيه، وهو ما يتنافى مع النشأة الأولى للمذهب، وما سار عليه "الأئمة المعصومون" الذين أحجموا عن الشأن العامّ وتوجَّهوا للعلم والتعليم.
البذور الأولى للمذهب
في اجتماع السقيفة التي انتُخب فيها أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وُلدت البذور الأولى للتشيُّع، حسب الروايات الشيعية، إذا رأى بعض الصحابة منهم سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر والعباس بن عبد المطلب أن علياً أحق بالخلافة من أبي بكر، تبلورت هذه الرؤية بعد مقتل الخليفة عثمان وانقسام المسلمين إلى شيعة علي وشيعة معاوية، فيما يرى آخرون أن مقتل علي بن أبي طالب والحسين بن علي هو الذي أعطى المذهب طابعه وخَواصَّه، وكثر مؤيديه نتيجة استشهاد أبطاله وهو ما نقله إلى الجانب السياسي بعد أن كان محصوراً في الجانب الروحي فقط.
يُعَدُّ فكر علي بن الحسين، المعروف بزين العابدين إلى جانب تصرُّف الحسن بن علي العمود الذي قام عليه المذهب الشيعي الاثنا عشري من خلال التوجه إلى الدروس العلمية الحَوْزَوِيَّة والإحجام عن الشأن العامّ فعلى الرغم من الثورات التي عاصرها علي بن الحسين ومنها ثورة والده الحسين إلا أن زين العابدين لم يشترك في أي منها، وهو ما سار عليه ولده محمد بن علي، الباقر من بعده لا بل إن الباقر ناظر أخاه زيد بن علي الذي أراد رفع السيف في مواجهة أهل الجَوْر، إذ رفض الباقر الخروج وتوجَّه تركيزه على الجانب العلمي ونشر عقائد التشيُّع بين الناس، وهو المشهور بغزارة العلم ومنها جاءت تسميته بالباقر "لبقره العلوم واستنباط الحُكْم" حسب ما أورده ابن كثير في البداية والنهاية فيما أضاف الذهبي في وصفه أنه "كان يصلح للخلافة"، واصل الإمام السادس، جعفر بن محمد بن علي، الصادق مساعي والده في مجال الدروس العلمية وتثبيت الإمامة الروحية متجنباً الإمامة السياسية، ومميزاً بينهما من خلال افتقار الأخيرة للأخلاق القائمة على القيم والخصال الدينية التي تتحلى بها الأولى بالإضافة لتسخيفه للسلطة ومن يلهث وراءها، حسب ما ذهب إليه "حجة الإسلام" محسن كديور.
تبدو مرحلة الإمام الصادق مرحلة فاصلة، في تاريخ التشيع السياسي، من خلال رفضه للخروج حين رأى حماسة الناس للخروج على الأمويين، وتحذير الناس من المشاركة في ثورة عمه، زيد بن علي على هشام بن عبد الملك بعد نصحه لعمه بعدم الخروج، ورفض مبايعة ابن عمه، محمد بن عبدالله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية الذي خرج على المنصور العباسي، وهنا نسلِّط الضوء على اشتراط النص/الوصية في الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية والتي كانت أحد جوانب الخلاف بين المذاهب الإسلامية ككل بما فيها الشيعية الأخرى كالزيدية التي ترى في البيعة والاختيار/ الشورى طرقاً للإمامة تتلاقى بذلك مع المذاهب السنية، وهو ما ذهب إليه جعفر الصادق ولم يقطع بالنص/الوصية طريقاً حصرياً للإمامة.
لم تُغيِّر التقلبات السياسية التي عصفت أواخر الدولة الأموية في النهج الذي سار عليه الإمام جعفر الصادق فقد رفض الدعوة التي تلقاها من أبي سلمة الخلال لتولي الإمامة، كما اتخذ الموقف ذاته من الدعوة التي تلقاها من أبي مسلم الخراساني عندما أرسل للصادق يطلب فيها نقل السلطة إليه بعد القضاء على الدولة الأموية، وسارت "الأئمة" من بعده على الخط الذي خطه الصادق والباقر من قبله، في الابتعاد عن السياسة والتفرغ للعلوم الدينية، ولم يشذَّ عنه "الإمام الثامن"، علي بن موسى الرضا رغم قبوله لولاية العهد فترة قصيرة خلال حكم المأمون العباسي، فقد قبلها مشروطة بشروط فرضها على المأمون تفرّغ ولاية العهد من مضمونها السياسي، فلن يأمر ولن ينهى، ولن يُفتي ولن يقضي، ولن يولي ولن يعزل، ولن يغير شيئاً مما هو قائم.
الصدمة وتداعياتها أحدثت وفاة الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري دون الإعلان عن خلفٍ له مأزقاً كبيراً للشيعة الإمامية لما أثارته من الشك والحيرة لدى أنصار الإمامية القائمة في جوهرها "على عدم جواز خلوّ الأرض من الإمام"، بما يمكن التعبير عن تلك الأزمة في مصطلحاتنا الحالية بأزمة الهُوِيَّة، ضاعف وطأتها شَرْطَا العصمةِ والنصِّ/الوصيةِ الواجبتين في الإمام، مما أحدث انقساماً بِنْيوياً في مذهب التشيُّع العامّ خلَّف وراءه ما يزيد عن أكثر من أربعة عشر مذهباً نصب كل مذهب منهم إماماً له، فيما بقيت الاثنا عشرية في حالة انتظار، بعد أن أوجد النواب الأربعة للإمام الغائب حلاً مؤقتاً لأزمة القيادة/ الإمامة خلال فترة "الغيبة الصغرى" التي امتدت من عام ٢٦٠ هجرياً حتى عام ٣٢٩ هجرياً، وممهدين في هذه النيابة لحلول قد تحملها "الغيبة الكبرى" من خلال الوصية التي نقلها محمد بن حسن السمري، آخِر النواب، عن "الإمام المهدي" أنهى فيها المهدي ولاية السمري (بالإخبار بأجل الأخير) وعدم الحاجة إلى وكيل في ظل"الغيبة الكبرى" التي آنَ أوانها.
أنقذ القائلون بوجود محمد بن حسن العسكري قواعد المذهب الاثني عشرية بعد أن كادت تتهاوى على وقع خلوّ الزمان من الإمامة، وهو القائم أساساً على وجود الإمام، واعتبار "الإمامة ركناً من أركان الدين" ساردين لذلك الحُجَجَ العقليةَ والتأويلاتِ الشرعيةَ لتقديمها لجمهورهم دون سواه، في مسعى لحماية المذهب فقط دون الحاجة لنشره بعد أن أصابه الانكماش وامتد إليه الخمول، فانحصرت المؤلفات حينها بتبرير الغيبة وتأصيل الوعي الانتظاري مع العمل على تدوين الأصول العقائدية للمذهب.
رغم الإشكالية الكبيرة التي أحدثتها الغيبة إلا أن جانباً إيجابياً قد تخلّق عنها، فمع الاستطالة الزمنية للغياب تم فتح باب الاجتهاد، المغلق سابقاً لوجود الإمام، أما في ظل الغيبة فإن قضايا ملحّة طرقت الأبواب لدى الإمامية تحتاج الفصل فيها، إذ تم تعطيل جزء مهمّ من التشريع كمحصلة لتجرد الفقيه من أي دور فاعل في الشؤون الدينية المقترنة بالإمامة، مما أدى لتعطيل الحدود والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقسيم الخُمُس وصلاة الجمعة في ظل غياب السلطة السياسية الشرعية المرتبطة بالإمام، بالإضافة لحاجة الشيعة الاثني عشرية إلى موقف واضح تجاه السلطة/الدولة أو العمل معها في ظل غَيْبة الأمام، ومشروعية القيام بثورة لمواجهة السلطان الجائر أو لإقامة الحكومة الشرعية التي تتبنَّى أفكار "الأئمة المعصومين"، أو ما يمكن تسميته بالدولة الدينية التي تقوم عليها العقيدة الشيعية الإمامية، وهو ما أفضى إلى جدلية متعددة الأبعاد، منها ما اختص بالفكر العقائدي الشيعي، واختص الآخر بطبيعة العلاقة بين الفقيه والسلطان. وأسهم هذا الجدل بظهور تيارين داخل الفكر السياسي الاثني عشري كان لكل منهما دوره وتأثيره في الفكر السياسي الاثني عشري حتى أيامنا الراهنة، ومن أحدهما تولدت النظرية القائلة بـ"ولاية الفقيه"، وهو ما سيتم تناوُله في مقالات لاحقة.
قام المذهب الاثنا عشري على التفوق الروحي من خلال السعي لحيازة السلطة الدينية دون الالتفات للسلطة السياسية، بدا ذلك من ابتعاد أئمة الشيعة الاثني عشرية عن العمل السياسي ابتعاداً كلياً بعد الانتكاسة العسكرية لثورة الحسين، إذ تجنَّب الباقر والصادق الثورات التي عاصراها، بمواقف صريحة لا تشوبها التَّقِيَّة، كذلك فرّغ الرضا ولاية العهد التي قَبِلَها من مضامينها السياسية، فيما بقيت وزارة علي بن يقطين التي تولاها زمن الرشيد العباسي، وزارة نفعية أقرها "الإمام السابع"، موسى الكاظم لخدمة الشيعة والتشيُّع.