المصدر: إندبندنت ترجمة: عبدالحميد فحام
بدا وكأن ذلك نهاية الطريق للعلاقات بين حلفاء الناتو تركيا والولايات المتحدة.
فقد وصف الرئيس رجب طيب أردوغان العلاقات بين واشنطن وأنقرة بأنها الأسوأ على الإطلاق خلال 18 عاماً قضاها كزعيم لتركيا.
وقال في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي، بعد عدم لقائه الرئيس الأمريكي جو بايدن: "المسار الحالي لا يُبشِّر بالخير".
وأضاف: "النقطة التي وصلنا إليها في علاقاتنا مع الولايات المتحدة ليست جيدة."
في غضون أيام، كان في مدينة "سوتشي" الروسية، واجتمع لمدة ثلاث ساعات تقريباً مع الرئيس فلاديمير بوتين لمناقشة التجارة، وصفقات الطاقة النووية، واستكشاف الفضاء ومبيعات الأسلحة، بما في ذلك المزيد من المشتريات التركية لأنظمة الدفاع الروسية الصنع "S-400" التي كانت قد أزعجت واشنطن، وفرضت بناء عليها عقوبات على أنقرة. وقد أشارت الأحداث إلى أن تركيا كانت تتحرك بشكل أعمق في المدار الروسي.
لكن ليس بهذه السرعة؛ لأنه حتى عندما كان أردوغان يتقرب من بوتين، كانت تركيا تضع اللمسات الأخيرة على صفقة رائدة مع "كييف" لبناء طائرة هجومية بدون طيار من طراز "بيرقدار TB2" على الأراضي الأوكرانية للقوات الأوكرانية لاستخدامها ضد القوات الانفصالية المدعومة من روسيا. لقد كان استفزازاً للكرملين حتى الغرب لم يجرؤ عليه، وجاء بعد أن وافقت أنقرة على بيع 24 طائرة بدون طيار لـ "بولندا"، وهي الطائرات التي أثبتت فعّاليتها المُدمرة ضد القوات المدعومة من روسيا في سورية وليبيا والقوقاز، على الرغم من اعتراضات الاتحاد الأوروبي والناتو.
هناك منطق في المناورة؛ حيث يقول يوسف إريم، المحلل التركي الذي كان في "سوتشي" خلال قمة "بوتين – أردوغان": "العلاقة الروسية تحافظ على صدق الولايات المتحدة" كما أن "العلاقة مع أوكرانيا تحافظ على صدق روسيا."
لكن هناك ديناميكية أوسع نطاقاً في العمل، ففي ما بين أولئك الذين يدرسون العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كان كل الحديث في السنوات الأخيرة حول ظهور عالم متعدد الأقطاب، حيث تخلت التحالفات القديمة بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب عن شراكات مجزَّأة ومؤقتة بناء على المصالح الأولية. وربما لا يوجد مثال أفضل للعالم المحفوف بالمخاطر -الذي لا يوجد فيه دول حليفة أو معادية بشكل دائم- من العلاقات التي تربط وتفصل بين تركيا وروسيا والغرب.
بالتأكيد، تلعب القيم دوراً في اضطراب العالم الجديد وتعتبر تركيا نفسها قد تعرضت للخيانة من قِبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لعدد من الأسباب، بما في ذلك رفض الاتحاد الأوروبي السماح للأتراك بأن يصبحوا جزءاً من الاتحاد ودعم واشنطن للمتمردين الأكراد وعدم الرغبة في بيع تركيا أسلحة مضادة للطائرات بشروط مواتية.
وتحتضن تركيا روسيا جزئياً للانضمام إلى كتلة القوة الأوروبية الآسيوية الناشئة التي تضم الصين، بينما تدعم أوكرانيا كضحية للإمبريالية الروسية على مر القرون.
كما أن سيطرة الإمبراطورية العثمانية على منطقة القوقاز والشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي امتدت لقرون قد تدفع اهتمام أردوغان لبناء نفوذ في تلك المناطق.
لكن السعي وراء المصالح الوطنية دون أي التزام بقِيَم أو وَلاءات أوسع هو تفسير أفضل لمناورات تركيا.
حيث تصنع أوكرانيا محركات نفاثة يمكن أن تمنح صناعة الطائرات بدون طيار الناشئة في تركيا ميزةً إضافيةً.
وتزوِّد روسيا أنقرة بالأسلحة المضادة للطائرات التي تعتقد أنها بحاجة إليها لحماية نفسها عند خاصرتها الجنوبية.
القليل هم الذين يعرفون ما حدث في اجتماع 29 أيلول/ سبتمبر بين أردوغان وبوتين.
وقد استهزأ أردوغان بالبروتوكول الدبلوماسي من خلال اجتماعه مع بوتين دون وجود أي من البروتوكولات التي تحيط بمثل هذه القِمم.
فكان هناك عدد قليل من مسؤولي وزارة الخارجية، الذين يملكون معلوماتٍ ومعرفةً حول ما حدث خلال الاجتماع. لقد كانت مباراة خاصة إلى حد كبير بين الزعيمين.
وبحسَبِ ما ورد تحدثوا عن عدد من الأمور، بما في ذلك اعتماد تركيا البطيء للقاح "سبوتينك-V" الروسي. وكتب أردوغان في تغريدة تضمنت صوراً للزعماء وهم يبتسمون معاً: "لقد غادرنا سوتشي بعد اجتماع مثمر مع زميلي بوتين".
لكنَّ الأمرَ الأكثرَ إثارةً للجدل هو أنه على الرغم من الابتهاج، فإن تركيا وروسيا من نواحٍ عديدة منخرطتان في صراع جيوسياسي لا مثيل له بين أي دولتين أُخريَيْنِ في العالم.
إذ إن بوتين يُشكّل كابوساً لتركيا في محافظة إدلب بشمال غرب سورية، حيث قصف الأراضي الزراعية الجبلية والبلدات الصغيرة بضربات جوية يهدد بإشعال موجة نزوح جماعي أخرى للاجئين باتجاه الحدود التركية.
كما لعبت تركيا دوراً مهماً في هزيمة القوات الأرمينية المسلحة والمدرَّبة من روسيا في حربها مع أذربيجان العام الماضي. وأحبط التدخل العسكري التركي العلني مخططاتِ موسكو بشأن ليبيا.
وفيما يتعلّق بأوكرانيا فيُعتَبر أردوغان هو الزعيم العالمي الوحيد الذي يتحدث بانتظام ضدّ ضمّ روسيا لشِبه جزيرة القرم ويقدّم دعماً مالياً وسياسياً لتتار القرم المسلمين.
بالإضافة إلى بناء مصنع "بيرقدار" للطائرات بدون طيار في أوكرانيا، باعت تركيا أكثر من عشرين طائرة بدون طيار إلى "كييف".
ويمكن أن يؤدي نشر الطائرات بدون طيار في شرق أوكرانيا إلى تدمير القوات الشبيهة بالميليشيات المدعومة من الكرملين والحكومة العميلة التي تقف وراءها.
ويقول يوروك إيشيك، الخبير في منطقة البحر الأسود المقيم في إسطنبول: "هذا تغيير في قواعد اللعبة". "نشهد انتصارات الحكومة الأوكرانية في الشرق لأول مرة."
كما تبيع تركيا لأوكرانيا سفينتين حربيتين من طراز "آدا" تُستَخدمان لتدمير الغواصات، مثل الغواصات الروسية من فئة "كيلو" التي تقوم الآن بدوريات في البحر الأسود، بما في ذلك منطقة القرم الانفصالية التي ضمها بوتين. وقال إيشيك: "يحصل الأوكرانيون على دعم من تركيا لا يحصلون عليه من أي شخص آخر".
"تركيا هي الدولة الوحيدة في الناتو التي تشارك فعلياً في أزمة القرم."
في النهاية، سَتُقيم تركيا تحالفاتٍ مع الغرب أو الشرق. ببساطة، إنها تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وبهذه الطريقة تتصرف مثل العديد من الدول الأخرى التي ترفض أن تُحاصرها التحالفات القديمة. وهذا يشمل روسيا التي تفتخر بما تسميه سياسة خارجية "متعددة المقابس" متجذِّرة في المصالح الظرفية، وأمريكا الانعزالية الدائمة وكذلك بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا التي يبدو أنها سئمت من حلف شمال الأطلسي ومتشوِّقة لإيجاد هيكل أمني بديل لأوروبا. إن الاعتماد على النفس -بدون تحالُفات طويلة الأمد- هو السِّمَة الحالية التي تُميِّز هذا العصر المُتعدِّد الأقطاب.
Author
-
المراسل الدولي للإندبندنت، يغطي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا وأوروبا منذ عام 2002، وملفات في طهران وبغداد وبيرو