ما زال النظام السياسي في تركيا يعاني من موادّ دستورية تُعَدّ من بقايا ترسّبات الانقلابات العسكرية، ولعلّ أهمّها ما يسمّى "العتبة الانتخابية Election threshold"، وتتجسّد بنسبة 10 بالمئة، وتُعَدّ من أعلى النسب بين دول العالم.
أعاق نظام العتبة الانتخابية المرتفع في تركيا وصول الكثير من الأحزاب التركية إلى البرلمان التركي، ممّا قلّص المشاركة السياسية في تركيا إلى مستويات محدودة مقارنة مع الدول الأوربية الديمُقراطية.
تبنّى العسكر التركي -بعد انقلاب 1980م المشهور الذي قضى قضاءً تامّاً على ديمقراطية الجمهورية التركية بعد إغلاق جميع الأحزاب السياسية- نظامَ العتبة الانتخابية بنسبة 10%، وذلك بعد استفتاء أجراه العسكر على دستور 1982م، وقد حاز نسبة قَبول تجاوزت 91%.
إذ تبنّى الدستور نظام جيفرسون لتخصيص المقاعد الانتخابية على أساس التوزيع النسبي فيما يُعرف بـ D'Hondt الذي طُوّرَ لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1792م وطُبّقَ في مجلس النواب الأمريكي.
كانت غاية العسكر من هذه الخطوة الحدّ من وصول أيّ أحزاب ديمقراطية رافضة لهيمنة العسكر على السلطة إلى البرلمان التركية ولا سيّما بعدما أغلقت الأحزاب السياسية التركية لأول مرّة في تاريخ الجمهورية.
بهذا، نجحت على مدار أكثر من 20 عاماً في إبقاء الحياة السياسية التركية في حالة فوضى في الوقت الذي كانت تتجذّر فيه دولة الظلّ "دول العسكر" في تركيا.
يدّعي بعض المؤيّدين لهذا النظام والنسبة -الذين يُظنّ أنّهم مناصرون للعسكر- أنّ الكثير من دول أوروبا تتبنّى ذات النظام، وهذا صحيح ولكن بنسب مختلفة كلّياً تساعد على التنافس السياسي العادل ومشاركة الأحزاب السياسية الصغيرة أو الناشئة السلطة، ففي ألمانيا على سبيل المثال، العتبة الانتخابية 5%، وفي السويد 4%، بينما في إيطاليا واليونان 3%، وفي هولندا 0.667٪ فقط، ما يجعل الفرضية التي تنطلق منها التيّارات المؤيّدة للعتبة الانتخابية التركية غير صحيحة.
مع تحسّن مؤشّر الديمقراطية في تركيا خلال العشرين عاماً الماضية -مع الآخذ بعين الاعتبار تراجعها في الآونة الأخيرة- بحسب Freedom House ارتفعت الأصوات السياسية والشعبية المطالبة بتعديلات دستورية فيما يتعلّق بالعتبة الانتخابية التركية Seçım barajı خلال الفترة السابقة، ولا سيّما بعد التحوّلات النوعية التي شهدتها الحياة السياسية التركية في شكل النظام وصلاحيات السلطات والتحالفات الحزبية.
للمرّة الأولى طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في آذار/ مارس2021م ضرورة إجراء تعديلات دستورية، وكان من اللافت إشارته بطريقة مباشرة إلى العتبة الانتخابية، بل وقوله إنّ معظم موادّ دستور تركيا المعمول به منذ عام 1982م وضعها العسكر ويجب تغييرها.
من الواضح أنّ هناك إجماعاً بين أحزاب المعارضة التركية Millet İttifakı وأحزاب السلطة Cumhur İttifakı على ضرورة تغيير العتبة الانتخابية، ولكن بكلّ تأكيد هذا التوافق لأهداف مختلفة ولا يصبّ في ذات الاتجاه؛ إذ ترغب أحزاب التحالف الجمهوري في تدعيم عدد الأحزاب المنضوية في هذا التحالف وضمّ أحزاب جديدة، وعلى هذا الهامش تُجري لقاءات مع بعض الأحزاب، ومن المهمّ الإشارة إلى أنّه هناك سبعة أحزاب ضمن التحالف الجمهوري ليس لها وجود في البرلمان بسبب العتبة الانتخابية العالية، بينما ترغب أحزاب المعارضة بتوسيع تحالفها وعدد مقاعدها ضمن السلطة التشريعية في البرلمان التركي.
في الحقيقة، يعمل حزب العدالة والتنمية جدّياً على إعداد مقترحاً سيعرَض على البرلمان التركي فيما يخصّ العتبة الانتخابية، إذ من المحتمل تخفيض تلك العتبة ثلاث درجات، أي من 10% إلى 7%، وفي حال عُرض المقترح على البرلمان فاحتمالية الموافقة كبيرة جدّاً.
ولكي يجري الموافقة على المقترح يجب الحصول على أصوات ثلثَي أعضاء البرلمان البالغ عددهم 600 نائب، ويمتلك تحالف الشعب الذي يضمّ حزبَي العدالة والتنمية والحركة القومية يمتلك 337 عضواً في البرلمان أي أقلّ من الثلثَين، لذلك يحتاج إلى موافقة أحزاب المعارضة.