بدأت “تحرير الشام” كفرع لتنظيم الدولة الإسلامية في الثورة السورية نهاية 2011 وقام الجولاني بتأسيس فرعها في سورية بمباركة وتوجيه من زعيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي لكن بعد أن قَوِيَتْ شوكة “جبهة النصرة” في سورية -وزاد متابعوها ومؤيدوها، واستقطبت آلاف المقاتلين الأجانب إلى صفوفها- شعر مركزها العراقي بتضخُّم الفرع على حساب الأصل “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق” ليأخذ قراره بدخول سورية وإعلان تبعية “جبهة النصرة” لتنظيم الدولة وإلغاء العمل بمسمى “جبهة النصرة” ليضم كل مكتسباتها العسكرية والبشرية والمالية لتنظيم الدولة لكن قيادة “النصرة” شعرت بالغبن وضياع المكتسبات في حال رضيت بالتبعية لتنظيم الدولة فقررت الهروب إلى الأمام وإعلان بيعتها لتنظيم القاعدة التنظيم الأم لتنظيم الدولة، وهنا بدأت مسيرة التحولات لدى “تحرير الشام” التي انتهت بتحولات كثيرة منذ أن ظهرت باسم “جبهة النصرة” نهاية 2011 إلى اليوم ولعلنا هنا نسرد أهم هذه المراحل والتحولات.
المرحلة الأولى- التحول في المشروع:
والتي بدأت في 10/04/2013 حين أعلن زعيم تنظيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني عن بيعته لتنظيم قاعدة الجهاد وزعيمها أيمن الظواهري وفك ارتباطه من تنظيم الدولة الإسلامية “في العراق والشام ” الذي أعلنه أبو بكر البغدادي في نفس اليوم، وهاهنا تحول تنظيم جبهة النصرة من فرع لمشروع الدولة الإسلامية المُعَوْلمة الذي يتبناه تنظيم الدولة في العراق والشام إلى فرع لتنظيم القاعدة الذي لا يخشى الجولاني منه أن يتغوَّل على مكتسباته في ظل الضعف الشديد الذي يعاني منه تنظيم القاعدة في تنظيم خراسان، وتحولت جبهة النصرة إلى فرع لمشروع الجهاد المُعَوْلم الذي تتبناه “القاعدة” والتي ترى أن ظروف التمكين لا تسمح حالياً بقيام دولة للمجاهدين، لذلك لا بد من إستراتيجية جهاد النكاية وإضعاف الأعداء ريثما تصبح ظروف المجاهدين مناسبة للقيام باستحقاق الإعلان عن الدولة، وعليه يمنع العمل السياسي نهائياً في هذه المرحلة كما بيّن الجولاني في تغريدات سابقة له على حسابه في “تويتر” الذي كان يحمل اسم حسام الشافعي.
المرحلة الثانية- التحول التنظيمي:
أدت ظروف الخيبة التي أُصيبت بها جبهة النصرة من عدم القدرة على الاستحواذ على جيش الفتح وتكسُّر هجماتها التي شنتها لتحرير مدينة حلب والتي قادها القائد العسكري لجيش الفتح “أبو عمر سراقب” إلى طرح مشروع جديد ليكون مقدمة لدعوة الفصائل الأخرى للتوحد معها في مشروع جامع تكون النصرة هي المهيمن عليه، فذهبت إلى تأسيس جبهة فتح الشام 14/12/2014 والتي أنهى في بيان تأسيسها قائدها أبو محمد الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة وإنهاء التبعية له وإضفاء الصفة القطرية والمحلية والقطع مع تنظيم القاعدة العابر للحدود، مع التمسك بوحدة الانتماء والمدرسة والأدبيات متعمماً بعمامة تشبه عمامة أسامة بن لادن، وواضعاً شخصية من المهاجرين عن يساره هو أبو الفرج المصري وشخصية سورية من يمينه هو محمد خير عطون في رسالة واضحة يؤكد من خلالها التمسك بحقوق المهاجرين على تنظيم فتح الشام وعدم التفريط بهم موضحاً أن فك الارتباط كان بموافقة من تنظيم القاعدة ليتبين بعد ذلك أن التنظيم لم يكن موافقاً على ذلك، وجاءت الأقدار بتصفية الأصوات المعارضة للجولاني وهما “أبو الخير المصري” مندوب الظواهري إلى سورية وأبو عمر سراقب القائد العسكري المتمرد على قرارات الجولاني بطيران التحالف الدولي وأعلن تيار أبي همام الشامي والعريدي وأبو خديجة الأردني تعليق عملهم مع فتح الشام بعد أن تبين رفض الظواهري لفك البيعة.
المرحلة الثالثة- التحول الأيديولوجي:
لم تَجْنِ جبهة فتح الشام أية نتيجة من فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة ولم تستطع جذب الفصائل إلى مشروعها الجديد بعد قطع ذريعة التبعية للقاعدة فذريعة التصنيف على قوائم الإرهاب ما زالت موجودة وهنا بدأت فتح الشام تروج لمشروع التغلب بالقوة العسكرية كحل لا بد منه لتوحيد الساحة وبعد سلسلة من القتال مع “جيش المجاهدين” و”أحرار الشام” و”صقور الشام” اتجهت فصائل مثل “حركة نور الدين الزنكي” و”جبهة أنصار الدين” و”جيش الأحرار” للتوحد مع “فتح الشام” وأعلن عن تأسيس “تحرير الشام” في 28 يوليو/ تموز 2016 ومع هذه الخطوة أنهت “تحرير الشام” تبعيتها الفكرية للسلفية الجهادية وتعريف نفسها بالمحلية لإضفاء صفة الاعتدال والوسطية ومحاولة الاندماج مع الفصائل، وبدأت تحرير الشام تطرح مشاريع الاندماج مع الفصائل وتحاول تغيير خطابها الشرعي قاطعة بذلك صلاتها مع نهج القاعدة والسلفية الجهادية متجهة إلى المزيد من الخطاب اللين والبراغماتية. لكن كل هذه الخطوات باءت بالفشل بعد أن انشقت كل الفصائل التي انضمت إليها مع تشكيلها لتحرير الشام.
المرحلة الرابعة- التحول السياسي: وإنتاج الدولة والسلطة
وجدت تحرير الشام نفسها مضطرة إلى إنتاج حكومة -ولو صورية- لتعرف نفسها بأنها ليست مجرد ميليشيا عسكرية وإنما دولة مؤسسات وسلطة مدنية منظمة، وبدأت هذه المرحلة تبدو ملامحها مع تشكيل حكومة الإنقاذ في الشمال السوري، في 2 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. مستعينة بشخصية مستقلة من خارج تنظيم “تحرير الشام” ومحاولة أكبر عدد ممكن من الناشطين والإعلاميين الذين يحظون بقبول شعبي بين الناس لتأمين الاعتراف والمشروعية الداخلية، وبدأت “تحرير الشام” بتنفيذ مخرجات “أستانا” وإدخال نقاط المراقبة التركية في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بعد طردها لحركة “أحرار الشام” من معبر “باب الهوى” والبحث عن التأهيل والاعتراف السياسي الخارجي ومحاولة تحقيق الإزالة من قوائم الإرهاب عَبْر سلسلة من الاتصالات الإعلامية ومراكز الأبحاث الغربية والتغيير الجذري في خطابها الذي بدأت تختفي منه كلمات مثل الجهاد وتحكيم الشريعة والحفاظ على المهاجرين واستعمال كلمات مثل الثورة وحرية الشعب السوري.
المرحلة الخامسة- التحول البنيوي:
بعد انحسار الجغرافيا وخسائر تحرير الشام والفصائل وسيطرتها على أجزاء كبيرة من مناطق شرق سكة القطار جنوب شرق إدلب وشمال حماة ودينة معرة النعمان وسراقب وخان شيخون وخسارة أجزاء من ريف حلب الغربي وتجمع الكثير من المقاتلين في منطقة ضيقة بعد حملات التهجير التي قام بها النظام من درعا والغوطة وريف حمص الشمالي ودينة حلب عمدت قيادة تحرير الشام إلى اعتماد توزيع القوة العسكرية على ألوية متخصصة غير مرتبطة بالجغرافيا، بعد أن كانت توزع القوة العسكرية على المناطق الجغرافية باعتماد تقاسيم القطعات كقطاع حلب وحماة والحدود والبادية، وتحول النفوذ والسلطة اليوم من قادة قطاعات المناطق كما كان الحال سابقاً إلى القيادة العسكرية والأمنية والاقتصادية كما هو الحال الآن.
بعد هذه السلسلة الطويلة من التحولات في المشروع والخطاب والبنية والحالة التنظيمية نجد أن تحرير الشام صحيح أنها خرجت من الحالة المُعَوْلمة العابرة للحدود لكنها لم تدخل في الحالة الوطنية، وصحيح أنها شكلت “حكومة الإنقاذ” لكنها لم تمحُ الحالة الميليشياوية وصحيح أنها كفت عن خطاب السلفية الجهادية المتطرف في تأصيلها الشرعية وعدم استعمال كلمات مثل الردة والطاغوت لكنها لم تنتج خطاباً معتدلاً ينتمي للتيار الديني الوسطي، وصحيح أنها حققت قطيعة مع المرجعيات الجهادية مثل الظواهري والمقدسي لكنها لم تطبع مع المرجعيات الدينية المحلية، وصحيح أنها اتجهت إلى فتح مجال للعلاقات السياسية لكنها لم تعلن عن أي خطاب سياسي متكامل، وصحيح أنها تقيم حالة من الإدارة والمجالس المحلية لكنها بنفس الوقت ترعى شبكة المافيات الاقتصادية والتهريب بما يجعل من “تحرير الشام” دولةً داخل الدولة.
كل هذه الإجابات المتوقفة التي تحتاج إلى إجابات من “تحرير الشام” حول مشروعها السياسي وهُويّتها الفكرية وطريقتها في الإدارة والحَوْكَمة يجعل منها حالة هَجِينة وملتبسة، كلمة السر فيها وشفرة التعريف على حقيقتها هي أحلام سلطوية عند قيادتها تُدار من أجلها كل التحولات ويُنسج في سبيلها كل الخطاب.