لم يكن انقلاب "الأسد" الأب 16 تشرين الثاني 1970 و الذي أوصله إلى سدة السلطة انقلاباً على سلطة ديمقراطية حرة منتخبة من الشعب أساساً، وإنما جاء ضِمن سلسلة من التصفيات الداخلية في صفوف البعث بعد أن أنهى حزب البعث الحياة الديمقراطية في منذ 8 أذار 1963 .
لكن بعيداً عن شجب الانقلاب وسرد الأدلة حول حقيقة أنه انقلاب نحاول في هذا المقال تفسير هذه الحدث ضمن تفاعل الديناميات الاجتماعية في المجتمع السوري آنذاك.
فقد اختُلف في تفسير هذه التراكمية الانقلابية والصراع بين العسكر من أجل الوصول إلى السلطة بين من يرى هذا الصراع هو صراع بين الطبقة السياسية التقليدية من الكتلة الوطنية المشكلة من البرجوازية السنية وبين الأحزاب الصاعدة من الأقليات الريفية.
أو بين من يرها امتداداً لصراعات خارجية ألقت بظلالها على الطبقة السياسية في سورية بين من يؤيد مشروع الهلال الخصيب وبين من يعارضه وبين من يريد المضي بمشروع إزنهاور وبين من يرفضه وبين من يدفع باتجاه الوحدة مع مصر ومن يدفع باتجاه الوحدة مع العراق.
أما الصراع داخل خزب البعث منذ انقلاب 1963 حتى وصول الأسد الأب إلى السلطة فكان هناك ثلاثة أراء في تفسير هذه الصراع.
1-بين مَن يراها انقلاباً من التلاميذ الصغار على الأساتذة والآباء الكبار المؤسسين، مثل "ميشيل عفلق" و"صلاح البيطار" و"أكرم الحوراني".
2-وبين مَن يرى في انقلاب الأسد نهاية النزاع بين الجهاز العسكري للحزب، والجهاز المدني وانتهاء الأمر لصالح الجهاز العسكري بقيادة اللجنة العسكرية السرية المكونة من خمسة ضباط من بينهم ثلاثة علويين وهم "محمد عمران" و"صلاح جديد" و"حافظ الأسد" وإسماعيليان وهما "عبد الكريم الجندي" و"أحمد المير".
3- وبين مَن يرى في انقلاب الأسد حلقة في سلسلة من التصفيات بين الحلف الأقلوي الثلاثي الذي كان يسمى (عدس) إشارة إلى حلف الضباط العلويين والدروز والإسماعيليين، ضد الضباط السُّنة.
فقد كان في داخل الجيش السوري ما يسمى اللجنة العسكرية التابعة لحزب البعث والمكونة من تحالف أقلوي فرضتها بنية الجيش منذ أن شكلت فرنسا جيش الشرق من أبناء الأقليات ، والذي رفض أبناء العوائل السنية الانخراط به؛ لأنه جيش يخدم أجندة استعمارية في ذلك الوقت، لكن استطاعت فرنسا استقطاب الأقليات إليه، والذي تشكل منه عماد الجيش السوري ما بعد الاستقلال، عمل هذا التحالف الأقلوي على إضعاف الوجود السني في الجيش بعد الانفصال وتسريح الضباط الدمشقيين، خصوصاً بعد انقلاب 8/ آذار / 1963 ثم اكتمل الأمر بعد الإطاحة بأمين الحافظ 23 / شباط / 1966.
ثم بدأ الصراع بين العلويين والدروز وتم تصفية سليم حاطوم وتسريح الضباط الدروز، وكتلته السرية داخل الجيش.
ثم في شباط 1968 تم تصفية الكتلة الحورانية السنية من الجيش وعلى رأسهم "أحمد سويداني" رئيس أركان الجيش السوري.
ثم كانت ما تسمى (الحركة التصحيحية) وهي في الحقيقة كانت تعبيراً عن نهاية التصفيات الداخلية ضمن الكتلة العلوية نفسها بين جماعة اللواء صلاح جديد، وجماعة اللواء حافظ الأسد.
وكان الخلاف بين الأسد وجديد يدور حول ثلاث قضايا أساسية:
1- كان (جديد) يحمل الأسد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران 1967 عندما كان يتقلد منصب وزير الدفاع ويتهمه بالخيانة وتسليم الجولان .
2- وكان يرى (جديد) أهمية التحول الاشتراكي بالطريقة الراديكالية في المجتمع السوري بعد النكسة للخروج من آثار الهزيمة، وكان يعتبر أن التخلف عن تطبيق الاشتراكية هو ما تسبب بالهزيمة، بينما كان يرى الأسد أهمية تقوية الأواصر مع الدول والأنظمة العربية لتقوية الجبهة العربية مع إسرائيل.
3- وفى سبتمبر (أيلول) 1970 اتخذ قادة سوريا السياسيون قراراً في صالح التدخل العسكري في الحرب الأهلية في الأردن إلى جانب المنظمات الفدائية الفلسطينية التي كانت تحارب في ذلك الوقت معركة خاسرة ضد الجيش النظامي الأردني تحت قيادة الملك حسين، ورفض الأسد المشاركة في هذه المعركة وحيَّد سلاح الطيران.
كل هذه الأسباب كانت قد شكلت عوامل النزاع بين الأسد وجديد لينتهي الخلاف لصالح الأسد الذي استطاع اعتقال جديد ورفاقه وزجهم بالسجن.
وصل الأسد إلى السلطة من خلال هذه السلسلة الطويلة من التصفيات، وفي واقع سياسي مُزْرٍ من الطبقة السياسية السنية المتهاوية والمتهافتة وراء مصالحها الشخصية والنفعية الضيقة.
فقد كانت الأحزاب السياسية التقليدية تمثل المصالح الإقليمية أكثر من تمثيل المصالح الوطنية، وظهر ذلك جلياً عندما حصل الانشقاق في الكتلة الوطنية والتي كان يشكل عمودها الفقري البرجوازية السنية في كل من دمشق وحمص وحلب، حيث انشطرت إلى حزبين حزب الشوام الذين يريدون التقارب مع السعودية والوحدة مع مصر لأسباب اقتصادية، وحزب الحلبيين (حزب الشعب) الذين يريدون التقارب مع تركيا والوحدة مع العراق لأسباب تتعلق أيضاً بالعلاقات التجارية، ولنفس السبب دعم الضباط السُّنة الانقلاب على عبد الناصر وانهاء الوحدة مع مصر بسبب تضرر مصالحهم الاقتصادية.
وعندما جاء الأسد للسلطة فهم مفاتيح سر المجتمع السني الذي يشكل الأغلبية، ولا يمكنه حكم سورية بدون موافقة هذه الأغلبية.
لقد كان الأسد يدرك أن مفتاح استرضاء هذا المجتمع وكسبه يقوم على شقين رئيسيين:
١- السوق (الاقتصاد) فالتجار في غالبيتهم العظمى هم من العوائل السنية فيحلب ودمشق.
٢- والدين. حيث كان المجتمع السني في المدن السورية الكبرى يغلب عليه سمت المحافظة والتدين
فأجرى الأسد الأب مصالحة مع تجار دمشق وحلب، واختار اشتراكيةً مخففة وبذلك كسب التجار السُّنة، من خلال علاقته مع رئيس غرفة تجارة دمشق المنتمي للماسونية "بدر الدين الشلاح".
ثم أعلن عن نفسه أنه مسلم سني، واستطاع أن يأخذ دعم المؤسسات الدينية الرسمية، بعد رفض الشيخ "حسن حبنكة الميداني" إعطاء صك الموافقة للأسد، فكان البديل الشيخ الكردي "أحمد كفتارو" الذي دعم انقلاب البعث سنة 63، ثم دعم الأسد بعد فيما يسمى بالحركة التصحيحية، ونال الأسد بذلك تأييداً من المؤسسات الدينية الرسمية، وزعماء بعض الجماعات الصوفية الذين حصلوا على امتيازات كبيرة في فتح معاهدهم وعدم الاقتراب منها جزاء على مواقفهم، واعتبره كثير من المشايخ مسلماً سنياً فهل كان الأسد كذلك؟
وهنا يجيب الدكتور برهان غليون عن هذا السؤال حين بين الإسلام السني الشعائري الذي كان يمارسه الأسد في صلاته وتظاهره بالعبادات، وبين انتمائه العلوي العصبوي الذي شكل العمود الفقري لسلطته من خلال مؤسستَيْ الأمن والجيش؛ فالأسد كان علوي العصبة.
ولا ينفي وجود بعض الشخصيات السنية الشكلية حقيقة أن النظام كان طائفياً علوياً؛ لأن هؤلاء لم يكونوا ليستطيعوا أن يغيروا شيئاً إلا أن يعطوا للنظام صك البراءة أنه ليس نظاماً طائفياً.
بهذه الطريقة استطاع الأسد أن يؤسس لنفسه سلطة شمولية وراثية متوحشة، ويبني علوية سياسية سيطرة على مؤسسة الجيش والأمن دام حكمها أكثر من خمسة عقود، واستمرت إلى اليوم ولا يزال الشعب السوري يعاني ويلاتها.
وهنا لا بد من الوقوف على تفسير البعض لوصول الأسد للحكم بأنه كان ثمناً لبيع الجولان، أو بتدبير من الاستعمار والمؤامرة الصهيونية، فهو نوع من تبرئة الذات، ونفي المسؤولية التاريخية عن المجتمع السني السياسي اللاهث وراء مصالحه اللاوطنية، والذي عجز عن حمل المشروع الوطني وراح ضحية المصالح والصفقات الأنانية الضيقة الأمر الذي خلق فرغات قاتلة لولوج القوى الانتهازية غير الوطنية لتصادر السلطة والدولة وتحولها لمجرد مزرعة خاصة لآل الأسد .