لا أنكر أنني كنت أتوجس من أفكار محمد أركون، وربما كانت أحكامي المسبقة ناتجة عن معرفتي بكون هذا الرجل الذي أنفق عمره يبحث عن تحديث الإسلام يلخص في مشروعه رؤية أوروبية فرنسية استشراقية محضة، تريد زعزعة عقائد المسلمين، تحت رايات الحداثة، وأنه نتاج تلك الثقافة الاستعمارية التي تربى عليها منذ أن درس في مدارس الآباء البيض قرب وهران.
ولكني لم أكن أنكر عليه اجتهاده المعلن في رغبته بتحديث الخطاب الإسلامي، ما دام يعترف بالإسلام فكراً وثقافة وهُوِيَّة حضارية وهو الجزائري الأمازيغي الذي حفظ قومه الإسلام وتمسَّكوا به رغم عقود طويلة من المعاناة مع الاستعمار الفرنسي الذي حاول بشراسة أن يقتلع الهُوِيَّة من جذورها ولم ينجح، لكنه ترك مخاضاً مضطرباً عند أجيال محدودة بُهرت بالثقافة الفرنسية وتربت عليها.
وبات أقصى طموحها أن تخلع رداءها الثقافي العربي الإسلامي وأن تلبس الزي الفرنسي، وبعض هؤلاء معذورون لكونهم وُلدوا في أحضان الثقافة الفرنسية، وأجادوا لغتها أكثرَ مما يجيدون لغتهم الأم، ثم وجدوا واقعهم شديد التخلف أمام تقدُّم فرنسا وحضارتها المعاصرة التي اجتذبتهم، وكثير من هؤلاء عاش في فرنسا أو تابع درسته فيها، وبقي يتأرجح بين انتمائه إلى وطنه الأم وجذوره الإسلامية، وبين انتمائه الفكري للثقافة الفرنسية الطاغية.
لكن تلك الجذور العميقة في باطن النفس بقيت نامية تئنّ في داخله، وقد ساعد على بقائها حية موقف الآخر الذي لم يمنح الطارئ اعترافاً كاملاً على الرغم من مرور عقود على حالة الفَرْنَسَة، ولئن كانت أصالة الثقافة العربية والإسلامية هي التي حررت الجزائر والمغرب العربي كله، فإن حالة ضخمة من المُثاقَفة نمت بقوة عَبْر عقود القرن العشرين بخاصة، بين العرب في بلاد المغرب وبين الثقافة الفرنسية العريقة.
وأحسب أنني قبلت دعوة الباحث كيحل مصطفى في كتابه المعنون (الأَنْسَنة والتأويل في فكر محمد أركون) حين طالب المثقفين العرب بإعادة قراءة أعمال أركون، وتقويم رؤيته، وفي عام 2016 أعلنت مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات عن انطلاق مسابقتها العالمية لجائزة محمد أركون وفاز بها الكاتب د. فالح مسرحي عَبْر مشاركته ببحث تحت عنوان " الأَنْسَنة أُفُقاً للتعايش" وهو عنوان وموضوع كتاب أُتيح لي أن أدرسه برَوِيَّة، وأن يحفزني لمتابعة قراءة مشروع محمد أركون ، وأن أجد فيه امتحاناً جديداً للإسلام أمام رؤية حداثية ذات خصوصية تختلف بالنوع والدرجة عن رؤية الجابري والعروي وحنفي وغليون والبرقاوي وأمثالهم من كبار مفكرينا العرب الكبار المعاصرين.
والدكتور فالح هو أستاذ الفلسفة بجامعة "باتنة" وقد سبق أن نشر كتاب "المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحَدَاثِيّ". وهو يبحث في مشروع محمد أركون الطامح إلى تأسيس علم كلام جديد في الإسلام، وأركون يعلن إيمانه بالتوحيد لكنه يبحث عن إعادة التأويل، وهذا ما سبقه إليه كثيرون من زمن المعتزلة إلى اليوم وهو يعلن تأثُّره بأبي حيان التوحيدي وبابن مسكويه، وقد درس بإمعان تجربة طه حسين التي سماها إصلاحية، وفي المقابل نلحظ تأثُّره بأستاذه ما سينيون و بـ (ليفي شتراوس، وبروفنسال) ومنذ صغره تأثر كثيراً بأساتذته (الآباء البيض) وبالقيم المسيحية التي تربى عليها، لكنه يعلن أنه يريد تأسيس (لاهوت) جديد في الإسلام، موضحاً أن هدفه تأسيس علاقة جديدة بين الله والإنسان، بين المجال المقدس والمجال الدنيوي، وهذا ما يشكِّل في نظره الشرط الأساسي للدخول في عالم الحداثة.
وفي دراسة الدكتور فالح ثلاثة محاور رئيسة، أولها بحث سمَّاه "الزحزحة"، ويتحدث فيه عن مفاهيم الأرثوذكسية والعقلية الدوغمائية، ثم عن مفهوم الإسلاميات التطبيقية، وعن نقد الرؤية الأرثوذكسية للتراث الإسلامي، ويبحث في ثانيهما عما يسميه (الاختراق) وعن نقد مركزية العقل العربي، ثم يتحدث في المحور الثالث عما يسميه (التجاوُز) ويشمل الحديث عن (الأَنْسَنة والعَلْمَنة والديمقراطية والمجتمع المدني والمواطنة).
وفي حديث أركون عن "الزحزحة" يباشر نقد الفكر الديني عَبْر ثلاثيات افتراضية في علاقات اللغة والتاريخ والفكر، والوحي والعقل والحقيقة، وسوى ذلك من متقابلات ومتناقضات، ليصل إلى ممارسة جديدة لعلم التاريخ بكونه علماً مِثْيُولُوجيّاً، وهو أن المِثْيُولُوجيَا هي البُعد المحوري الذي تدور حوله كل الأبعاد الأخرى.
وهذه الرؤية ليست من اختراع أركون فهناك كثرة ممن يرون الأديان السماوية كلها مِثْيُولوجيا، وهم يقصدون بالمِثْيُولوجيا علم الأساطير ودراستها، والقائلون بذلك أغلبهم ملحدون ينكرون وجود الله، وبعضهم يؤمنون بوجود خالق لكنهم ينكرون الرسالات السماوية، وبالطبع ينكرون الوحي، لكن أركون لا يصرح بذلك ولا يعلنه بوضوح تامّ، لكنه يعتقد أن القرآن مُحرَّف، ويعتقد أنه لم يُنقَل نقلاً مؤتمناً ، وهذا الاعتقاد قال به بعض المستشرقين وسبقتهم إليه بعض الفِرَق الباطنية، والعجيب أن أركون يتحدث عن وثائق سرية لدى بعض الفِرَق تقدم المعرفة الصحيحة، ولا أدري كيف سيثبت صحتها !!
وفي حديث أركون عن مفهوم الأرثوذكسية (وتعريفها: الرأي الصحيح) وهي في المعادل الإسلامي مذاهب أهل السُّنَّة، يرى أنها تتحول بمرور الزمن إلى سياج دوغمائي منيع، محصن ومحمي من قِبل حراس الأرثوذكسية أو كما يسميهم أركون مسيري أمور التقديس (يقصد علماء أهل السُّنَّة وفقهاءهم) ويرى أن هذا السياج يقف ضد كل اختراق من قِبل أفكار أو سلوكيات وافدة من قِبل غير المنتمين إلى هذه الأرثوذكسية، ولا يمكن دمجها ضِمن العناصر المشكلة للطريق المستقيم، وهذا ما يمكن أن نعثر عليه في تاريخ مختلف الأمم، وفي كل الديانات وبخاصة الديانات التوحيدية، ويصرح أركون بقصده بقوله (ونستطيع كالعادة أن نعثر في تاريخ اليهودية والمسيحية على مواقف مماثلة للمواقف التي وصفناها في الإسلام) وهذا ما أرجو أن نتابع النقاش فيه في مقال قادم.