يبدو أن ثَمَّةَ وازعاً دينياً خَفِيّاً في ذات محمد أركون جعله يتمسك بالأديان على الرغم من كون مشروعه الفكري يتحدث عن زَحزَحة المفاهيم الدينية التقليدية وعن ضرورة اختراقها، ومن ثَمّ تجاوزها.
إنه يدعو إلى تأسيس علم كلام جديد، أحياناً يسميه لاهوتاً، وأحياناً ينفر من هذه التسمية، وهو يدعو إلى رؤية جديدة تحقق تحديث الفكر والموقف من الوجود ومن رؤية العالم الكوني، لكنه يقر بأن عبقرية الإسلام تتجلى في التوحيد المنزه المطلق، وهو يبحث عن عالِمٍ متخصص متمكِّن جديد يعيد تقديم الرسالة، وهو يستحضر الإمام الشافعي ورسالته التي جسدت صرامة العقل الإسلامي، لكنه يبحث عن تجاوُز لها، بعد تفكيك (الرسالة) التي رسّخت آليات تفكير محددة اعتمدها العقل العربي في إنتاج المعرفة.
وأركون يقول ما معناه (أننا نحتاج إلى شافعي جديد يدخلنا عالم الحداثة)، ويبدو كأن أركون يريد إنتاج إسلام جديد يرضى عنه الغرب، وهو يعلن أنه يبحث عن (مستقبل جديد لَبِناتُهُ الأساسيةُ موجودةٌ لدى الغرب).
وتتضح متناقضات دعوات أركون وتأرجُحه العقائدي الذي تحول إلى أزمة فكرية لديه بين حرصه على حضور الدين بعقيدة التوحيد الإسلامي، و بين رغبته بإفراغ هذا الدين من كل ما يرغب الغرب بمحوه وإلغائه، والهدف الواضح من مفهوم الزحزحة هو خلخلة البنيان الفكري الإسلامي، وهدف الاختراق هو إحداث ثغرات في الغلاف المتين للوصول إلى أعمدة الدين، ثم التجاوُز إلى حداثة لا ملامح لها ولا وضوح في دعواتها، وهو لا ينكر أن الحداثة مشروع غير مكتمل، بل إنه يدعو إلى تجاوُز مصطلح (ما بعد الحداثة) ويقترح مصطلح (ما فوق الحداثة) ويقر أركون بأنه ليس كل ما دعت إليه الحداثة أو جاءت به صحيحاً ومقبولاً، ولا ينكر غياب الروح عن أُفق الحداثة، بل إن أركون ينادي بالحاجة إلى الاعتراف بالغنى الروحي والثقافي للأديان، ويرى ضرورة الإصغاء إلى عمق تجربتها التاريخية.
والمفارقة أن أركون ينتقد العلمانية ويدعو إلى العَلْمَنة، ويرى أن العلمانية باتت تعادي الدين، وتشتغل بآليات تشبه آلياته، ويقدم العلمانية الفرنسية مثالاً على الموقف العلماني المعادي للدين.
وعلى الرغم من انتقاده للعقل التقليدي الذي يعتد بامتلاكه للحقيقة فإنه يطالب بتمتين الصلة بالقرون الهجرية الأربعة الأولى، وإلى إعادة قراءة التراث الإسلامي بعيداً عن الأَسْطَرَة والأَدْلَجَة وعن البَتْر والاصطفاء.
ولا بد من أن يلحظ القارئ هذا الاضطراب الفكري في مشروع أركون، فهو يقر بالوحدانية، لكنه ينتقد وقوع العقل في ظاهرة الخضوع المطلق للوحي، ويرى الوحي معرفة جاهزة، كما يرى أن العقل يقع في المرتبة الثانية بعد النص المُوحَى به.
ولا بد لنا من أن نفرق بين نوعين للوحي، أحدهما يتعلق بالغيب، وهو حقاً يُقدِّم معرفة جاهزة تُخيِّر الإنسان بين قبولها أو رفضها دون تقديم أدلة أو برهان، فهي آيات إخبارية عن عالم غيبي لا تدركه العقول، ولا يقدم بيانه عَبْر المحسوس، ومَن شاء أن يصدقه مؤمناً فإنه يصدق ما جاء به الوحي عَبْر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومَن شاء ألَّا يصدق فهو حر في اختياره، وأما الوحي المتلقى بتنظيم حياة المؤمنين فهو قابل للحوار بالحُجّة والبرهان، وهو يمنح الإنسان حريات واسعة في الـتأويل والتفكير، ويترك كثيراً من شؤون الحياة للناس كي يتشاوروا ويختاروا ما يحقق مصالحهم بشكل أفضل ما لم تتعارض هذه الآليات مع ثوابت الإسلام في أركانه ومعتقداته، وجُلّ الفقه الإسلامي هو نتاج علوم وتجارب واجتهاد وقياس، وهو قابل للتطوير والتحديث بما يحقق المصلحة العامة، وهذا الأمر من المعلوم في شؤون الدين، وتاريخ الفقه زاخر بالآراء والتأويلات، التي تحتاج باستمرار إلى مراجعة وتدقيق كي يتم فحصها حسب معطيات العصر والتقدم العلمي فيه.
وأرى أن الصرامة العقلية التي تحدث عنها أركون لا تتعلق بالفقه وبخاصة مدارس أهل الرأي، بل تتعلق بقضايا الوجود والميتافيزيقيا، وهذه حقاً تقع في دائرة الحَرَج ولا أقول الممنوع مطلقاً في الفكر الإسلامي، فقد ناقشت الفلسفة الإسلامية قضايا الوجود والعدم منذ أواخر القرن الهجري الأول، ولا ننكر أنها ضيقت دائرة النقاش، ووجهت جهد المتفلسفين إلى حالة التوفيق بين العلم والدين، وهذا ما عمل عليه كِبار فلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن رشد وأستاذه ابن طفيل.
وهكذا تبدو دعوةُ أركون إلى جعل الممنوع مسموحاً به استعادةً لدعوات أطلقها المعتزلة وإخوان الصفا وكثير من المشائين العرب، ويبدو أن أركون يضم صوته إلى صوتهم ضِمن معطيات حريات العصر فكرياً حين يطالب بإنهاء ما يسميه الدُّغمائية وحالة الحدية الصارمة بين الإيمان وبين اللاإيمان، مبرِّراً طلبه بفهمه كون الحقيقة نسبية، وبالطبع لن يوافق المؤمنون بوجود الله على نسبية الحقيقة فيما يؤمنون به بالتسليم المطلق والإذعان الكامل دون رَيْب أو شك، وهو حين يطالب بتحرير العقل العربي يؤكد على ضرورة الإيمان، ولكنه مع نسبية الحقيقة يجعل الإيمان منقوصاً.
ويبدو موقفه من العلمانية جاداً حين يرى أنها وصلت في المآل من أداة للتحرر وحماية الاختلاف إلى أداة ضد الدين بل إنها صارت دِيناً جديداً له مقدساته وقيمه الثابتة، ويرى أن العلمانيين الأوروبيين بالغوا كثيراً حين أعلنوا موت الإله، ونهاية الأديان، متجاهلين أن الأديان موجودة بقوة في كل المجتمعات، ولا ينسى أركون أن يذكر أن الدين كان المبرر أمام الصهيونية في دعوات أرض المعاد، وهو يذكر كذلك بالدوافع الخفية للحرب الأمريكية على العراق التي وصفها جورج بوش بأنها حرب مقدسة.
وفي حديث أركون عن ظاهرة الإرهاب يدين الإرهاب بالطبع، لكنه يُنبِّه إلى ظاهرة الحروب غير المتكافئة التي تشكِّل دوافع للعنف، وهذا ما يدعوه إلى التأكيد على الدعوة الإنسانية وبلورة فلسفة تسمح بقبول الآخر، وتُنهي الشَّيْطَنة المُتبادَلة بين الإسلام والغرب، ولست أوافق على وصفه تلك الشيطنة بالمُتبادَلة، فقد بات الإسلام ضحية الشَّيْطَنة المتصاعدة وتم الاعتراف من قيادات غربية كبرى بأن التنظيمات الإرهابية التي تدعي الإسلام كانت وما تزال مدعومة من شياطين الغرب والشرق، الذين يحاولون تشويه صورة الإسلام، ولسنا نضع الغرب في سلة واحدة، ولا ننكر أن في الغرب مَن يؤمنون حقاً بحقوق الإنسان، ويعترفون بالآخر، ويقيمون الحياة الديمقراطية، كما نعترف بأن بين المسلمين متطرفين يقسمون العالم إلى دار إيمان ودار كفر، ولا يرون ديار العلاقات السلمية والمصالح المشتركة والاتفاقيات والمعاهدات والشبكات الدبلوماسية التي تربط بين الدول والأمم والشعوب، وهنا تبرز أهمية دعوة أركون للأَنْسَنَة، ونأخذ منها صَفْوة الفكرة، مع حق الاختلاف في كثير من التفاصيل، باحترامٍ جادٍّ لحرية الرأي والمُعتقَد.