سبق لي أن كتبت عن الاستشراق، وتوقفت طويلاً عند كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) وعند كتابه (تغطية الإسلام) الذي كشف فيه جهل الغرب بحقيقة الإسلام، وفضح وسائل الإعلام الغربي التي قدمت نهجاً مبرمجاً للتعمية على حقيقة الإسلام، وقد حقق إدوارد مكانة هامة في الثقافة العربية الراهنة بفضل جرأته على مواجهة الحقائق، ولاسيما لكونه يتحدث من موقع أكاديمي أمريكي رفيع الشأن دولياً، وهو الفلسطيني المسيحي المهاجر، الذي أعلن رفضه لاتفاقيات السلام في أوسلو، وحظي كتابه (نهاية عملية السلام، أوسلو وما بعدها) باهتمام كبير، وقد كشف فيه ما سماه أكذوبة السلام التي جعلتها إسرائيل ذريعة لإعلان نهاية القضية الفلسطينية من وجهة نظرها.
وثمة أمر آخر أعمق تأثيراً في حصول إدوارد على مكانة عالية في الوجدان العربي، هو سيرة هذا الفتى الفلسطيني الذي وُلد في القدس، وعاش (خارج المكان) لكن ذاك الخارج بقي مُفعَماً بالمكان المقدس الذي وُلد فيه، وهو القدس التي غادرها إدوارد عام 1947، وبقيت في أعماقه، وسكنت في وجدانه، على الرغم من أنه صار أمريكياً بامتياز، وشغل منصب أستاذ في جامعة كولومبيا، وهي واحدة من أشهر أربع جامعات في العالم كله، وميزانيتها تفوق ميزانيات بضع دول في المنطقة العربية، وفيها أربعة آلاف أستاذ جامعي، خمسة منهم يحملون لقب أستاذ الأساتذة، وواحد منهم إدوارد سعيد.
وأحسب أن هذا النجاح وحده كفيل بأن يثير إعجاب العرب وزهوهم، وهم الباحثون في تاريخهم عن البطولة التي تنمي إحساسهم الجمعي بقدرة عرقهم على الارتقاء وسط عالم يهمشهم، فكيف إذا لمس العرب وفاء يدعوهم إلى اعتبار هذا المهاجر من قبل نكبة فلسطين ابنهم البار الذي لم ينسَ ولم يتجاهل قضية شعبه؟
لقد لفت إدوارد انتباه العرب إليه منذ أن كتب عن الاستشراق عام 1978، وكانت الريبة في الاستشراق تغتلي في قلوب كثير من المفكرين العرب وعقولهم، لكنهم لا يملكون الشواهد التي قدمها، وكانوا ينظرون بحذر إلى تاثيرات الاستشراق في الأدب الحديث، وليس بعيداً ما كان يثار حول سلامة موسى، وأستاذه شبلي شميل، بل حتى على لطفي السيد، وطه حسين، وعلى كثير من الأدباء الكبار الذين أبدوا تعلقاً واضحاً بالغرب. ونحن نذكر أن سلامة موسى مثلاً، طَالبَ مصر بأن تقطع صلتها بالشرق كله، وأن تنتمي إلى الغرب وهو يقول: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا ولنجعل فلسفتنا فلسفة الغرب". وأما طه حسين فقد حمل نظرية الشك كلها من رُؤَى المستشرقين، وفي بحثه عن مستقبل الثقافة في مصر وقد وجده في الضفة الأخرى من المتوسط.
ولقد كان بعض أساتذتنا قبل خمسين عاماً يتحرجون عندما يجدون المرجعية الحديثة في الأبحاث النقدية المحدثة تعود إلى ما كتبه بروكلمان مثلاً، وهو تلميذ تيودور نولدكه الذي كتب عن تاريخ القرآن بشكل عدائي استفز المسلمين، والمفارقة أن يصبح كتاب نولدكه نفسه مرجعاً عند بعض الباحثين، ولم يكن أساتذتنا يرتاحون لمرجيليوث كذلك ، لكن أبحاثه باتت مرجعية أيضاً مع أنه مشهور بكراهيته للإسلام، والطريف أنه انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، وأعتقد أن ذلك كان تقديراً لقيامه بنشر كتب من التراث الإسلامي مثل معجم الأدباء لياقوت، ورسائل أبي العلاء. ومثل مرجيليوث كثير من المستشرقين الذين قرأ عنهم المثقفون العرب أكثر مما قرؤوا كتاباتهم، فمنهم من أخذته فتنة الغرب فصار داعية له، ومنهم من تمسَّك بعُرى ثقافته وعقيدته فصار يحذر من المستشرقين، ومنهم مَن انقلب من موقع المفتون إلى موقع المناهض. وأشهر هؤلاء المنقلبين هو الفيلسوف الوجودي المصري عبد الرحمن بدوي الذي ترك للثقافة العربية (موسوعة المستشرقين)، وهو أهم من عرّف الثقافة العربية المعاصرة بالاستشراق. وهو يرى أن المستشرق "هو الغربي الذي يدرس تراث الشرق، وكل ما يتعلق بتاريخه، ولغاته، وآدابه"، ويرى أن للاستشراق بوجه عام "دوافع متفاوتة شدةً وضعفاً، اتسم بعضها بهدف تبشيري، واتجه بعضها الآخر بغرض استعماري، وخلص القسم الثالث باتجاه علمي، فشكلت بذلك دوافع تبشيرية، ودوافع استعمارية ودوافع علمية". وربما تكون هذه النظرة أكثر موضوعية من التي يقدمها إدوارد سعيد، الذي درس الاستشراق من جوانب أخرى، وعلى هَدْي نقدي مختلف عما فعل فيلسوف الوجودية الذي فاجأ مريديه في أواخر حياته بانقلابه الفكري المدوي إلى الإسلام، حتى كتب عنه سعيد اللاوندي كتابه المعروف (فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام). ويبدو أن البدوي لم يَعُدْ يطيق حجم الحقد الذي رآه عند المستشرقين على العرب والمسلمين، وعلى القرآن الكريم وعلى محمد سيد المرسلين.
كان عبد الرحمن قبل انقلابه يردد كثيراً مما يقوله المستشرقون، ويُبدي إعجابه الشديد بما يستخرجون من أفكار وآراء، لكن أصالته العربية والإسلامية استيقظت فألف كتابيه الشهيرين بالفرنسية: (دفاع عن القرآن ضد منتقديه) و (دفاع عن النبي محمد ضد المنتقصين لقدره). وقد مضى في هذا الدفاع بنحو آخر إدوارد سعيد في كتابه (تغطية الإسلام)، واهتمّ بالتغطية الإعلامية له، بينما بدأ البدوي نقده لهذا النمط من الاستشراق من كتابات يوحنا الدمشقي، ومن تلاه من كتاب الشرق قبل أن تتولى أوروبا متابعة المهمة.
وفي حين لم يوضح البدوي منهجه البحثي في الاستشراق فضلاً عن التعريف بماهية الاستشراق ومضامينه والتعرف إلى رجالاته، فإن إدوارد انطلق من رؤية نقدية ضمها كتابه الأول (العالم، النص والناقد) وكتابه (بدايات). يقول الناقد محمد شاهين في دراسته عن خطاب الاستشراق: "في الكتاب الأول استطاع إدوارد سعيد، أن ينير السبيل إلى تنقيب المعرفة عند فوكو، وإلى تركيب البنيوية عند ليفي شتراوس، وإلى فلسفة الكتابة عند دريدا. وفي «بدايات» نذرَ إدوارد سعيد نفسه بعد الفراغ منه كي يبدأ تطبيقاً عملياً للهدف والغاية والأسلوب الذي يناقشه الكتاب، فكان الاستشراق هو الميدان. سعى إدوارد سعيد في كتاباته إلى الانطلاق من النص في قراءة العالم وليس العكس وهذا هو بيت القصيد، ويرى إدوارد سعيد أن اللغة، هي التي تلد العالم وتبدعه وتشكله من جديد وتجعله في حالة ديمومة مستمرة". والمهم أن ظهور كتاب إدوارد أحدث صدمة كبيرة لدى الداعين إلى التغريب، فقد قدم إدوارد حقائق وشواهد مهمة عن كون حركة الاستشراق في جُلّها حركة استعلائية قامت على أساس من النظرة العدوانية للشرق، وللعرب، وللمسلمين، وربما كان الإسلام هو السبب؛ لأنه أحدث صدمة دائمة لأوروبا. (وللحديث صلة)