لا يبدو أن هناك في المعارضة السورية، بكل تَلاوِين الطيف السياسي، وكل تنوعاتها السياسية والعسكرية، من امتلك الشجاعة الأدبية ليمارس النقد الذاتي، لمسيرته التي جاوزت العشر سنوات ونيِّفاً، وليس في الواقع المتاح تجارب في هذه المعارضة برُمَّتها تشير إلى امتلاك هذه المعارضة بقَضِّها وقَضِيضها مَن مارس النقد بوعي مطابق، ودراية علمية وَعْيوِيَّة بمَاهِيَّة وأهمية أن تمارس القوى السياسية والتي تعمل بالشأن العامّ القدرةَ على نقد الذات.
الواقع أن النقد بحد ذاته يكون بمنحييْنِ اثنين، نقد للذات ومن داخل هذه الذات، وبأدواتها هي وليس من سواها، وهذا النقد يكون الأهم والأقدر على كشف المستور، والدخول إلى كُنْهه الحقيقي، ومن ثَم التمكن من التجاوز وإمكانية التجاوز نحو الأفضل والأكثر فائدة لمسار ومسيرة العمل.
بينما هناك نقد وانتقاد من الخارج، أي من خارج جسم هذه المعارضة، وهو أيضاً ضروري جداً لكنه يبقى نقداً من الآخر، فيكون تقبله ليس دائماً ضمن المعنى الصحيح لسياقاته، أو يمكن أن يعطي مردوداً مهماً وقادراً على التجاوز، بل قد يؤدي إلى ردات فعل من الجسم السياسي المُنتقَد، يبنى عليها البحث وتسليط الضوء على الأسباب والمصالح التي دعت الآخر (الخارجي) للإمساك بسوط النقد وإعماله بحثاً وتشريحاً، واشتغالاً بمثالب وأخطاء الجسم السياسي المراد تناوُله ونقده.
لكن كِلا عمليتَي النقد باتت ضرورية إذا أردنا تجاوز وعبور عنق الزجاجة وامتلاك ناصية الحق والحقيقة، والوصول إلى ما هو أرقى وأنقى، ويتساوق مع دماء الشهداء الذين ضحوا على مذبح الحرية، نحو الولوج في الحالة السورية إلى دولة الحرية والكرامة، دولة الحق والقانون، دولة تمتلك دستوراً حقيقياً، لا يسمح بإعادة إنتاج الاستبداد في سورية مرة أخرى، تحت أي ظرف، وضمن أية منعرجات آنية أو مستقبلية.
لكن كيف تنقد المعارضة ذاتها، فتتجاوز وتستوعب، أم أنها لا تقبل النقد ولا تمارسه، فتبقى تراوح في المكان، أو على طريقة مقولة أفلاطون (كل واقف فإلى نقصان أقرب). ويبدو أن نظرة فاحصة وموضوعية إلى حال المعارضة السياسية على الأقل يشير إلى ابتعادها كل البعد عن آليات النقد أو حتى الانخراط تحت أي ظرف بعملية النقد الذاتي، لكنها تنبري في معظم الحالات إلى الدفاع عن نفسها وفتح المعارك السجالية في مواجهة كل الدعوات للنقد، أو ممارسة النقد من أفراد هنا أو هناك، وهي بذلك تعيد إنتاج الاستبداد الذي خرجت جماهير سورية في مواجهته ومن أجل القضاء عليه وإقامة دولة الديمقراطية والحرية. وهنا يجب أن تشمل هذه التوصيفات كل أنواع المعارضة بلا استثناء، بلا عمليات تطمير للبعض تحت عناوين شتى منها أنها قُوى ثورةٍ وليست مُعارَضة، وفي العمل الثوري يمكن تجاوز النقد بدون الدخول في دهاليزه، وهذا معطًى ليس حقيقياً وليس واقعياً، بل هو هروب أكيد نحو الأمام دون وعي التاريخانية التي تحدث عنها يوماً ما الراحل والمفكر السوري إلياس مرقص، بينما المطلوب إعطاء النقد الذاتي كل الوقت وكل الجهد إذا أردنا وأرادت المعارضة تجاوُز الواقع المرّ الذي أوصلتنا إليه برمتها، أي إلى ما نحن عليه من تشظٍّ ولافاعلية وعدم القدرة على الفعل في مسائل هي من صلب عمل المعارضة، وليست مجالاً رحباً لتمليكه للخارج حتى لو كان الخارج صديقاً، فليس أقدر على حكّ جلدك من ظفرك، وليس هناك من له الحق في الإمساك في مسار الحل السياسي سوى أولياء الدم السوري، وهم من المفترض أن يكونوا كل قوى المعارضة والثورة السورية، الذين تنكبوا لقيادة المعارضة منذ عشر سنوات خلت، وما زالوا هم وليس سواهم نفس الأشخاص، باستثناء من رحل إلى دنيا الآخرة.
وعلى رأي (هرمان هسه) في هذه الحالة على المعارضة والبشر الذين يخطئون ويصيبون، وإن لم يكونوا قادرين على النقد الذاتي (فالأجدر بك أن تتعلم أولاً كيف تنصت!").
لكن واقع المعارضة يبين أنها لا تنقد ذاتها ولا تمارس أي نوع من أنواع النقد، ولا تصمت، بل تقف شاهرة سيوفها في وجه كل من تسول له نفسه نقدها، أو تشريح واقعها ولماذا وكيف أوصلتنا إلى هنا حالتنا هذه.
وإذا كان جُلّ الشعب السوري الثائر في وجه الطغيان الأسدي من ضحى، بين اعتقال تعسفي أو استشهاد لبعض أفراد أسرته، أو فَقْد لممتلكاته وبِنْيته التحتية، أو عَبْر التهجير القسري الذي جرى ضده، فإن من حق كل السوريين أن يطالبوا معارضتهم وقواها الثورية بممارسة النقد، والاعتراف بالأخطاء، لعل الاعتراف بالخطأ وممارسة النقد الذاتي تجاهه، يكون بوابة العبور نحو حالة سورية أكثر جدوى وأكثر إشراقاً، وأقدر على التجاوز. حيث النقد المزدوج الذاتي والخارجي هو الطريق الأنسب والرحب نحو التجاوز، الذي يستوعب أخطاء الحاضر والماضي عبر تاريخانية تعي الماضي وتستوعب دروسه وتدرك الحاضر بكل آلامه وآماله، وتتطلع للمستقبل بوعي عقلاني لا وجود للعواطف فيه، ناهيك عن العمل الحقيقي الدؤوب الذي يدرك ويستوعب كل ذلك، فيعي الكينونة السياسية والاجتماعية، ويغوص في الماهية، ويعيد إقامة العلاقات والتحالفات حسب المصلحة الوطنية، وليس حسب آليات وأدوات الحب والكره.
عندما يثور شعب على مستبديه من أجل حريته وكرامته، وعندما تثور قوى المعارضة على حُكَّامها وجلاديها، فمن أولى الأولويات المفترضة أن تمتلك هي نفسها فكر الحرية، والعقل الحر، والعقلانية الوَعْيوِيَّة التي تنتمي للحرية فتمارس آلياتها، وحسب واسيني الأعرج فإن: "الحرية تعطي للفضاء اتساعاً بلا حدود، تحول الغرفة الصغيرة إلى سماء، والحلم إلى ضياء" وهكذا تكون عملية الوعي النقدي، المطابق لماهية العمل الديمقراطي والوطني، الخارج من رحم المعاناة، والمفتقد لفضاءات الحرية حيث هو الذي منذ ما يزيد عن 51 عاماً عاشها السوريون تحت حكم العسكر والاستبداد الشمولي مع حافظ الأسد أولاً ثم مع ابنه الوريث غير الشرعي للحكم، لكنه الوريث الشبيه بمنتجات دولة القهر والهدر لإنسانية الإنسان وكرامته.
ويبقى السؤال معلِناً عن نفسه: هل تدرك قوى المعارضة السورية والثورية بكليتها، أن وعي الفكر النقدي بات ضرورة حياة أو موت خروجاً من حالة الاستعصاء والاستنقاع والعِثار الكبير الذي يعيشه الشعب السوري عَبْر عشر سنوات مضت من الممارسة السياسية والعسكرية التي لا تقبل النقد ولا تمارسه أبداً إلا ما رحم ربي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مَن يمتلك القدرة على النقد الذاتي سيكون شجاعاً بحق، وسوف يحترمه شعبه، مع وجود كل أخطائه؛ لأن المعترف بذنبه لا ذنب له، ضِمن كل المعايير المجتمعية والإنسانية فهل تشهد الحالة السورية في المعارضة هذا الوعيَ من النقد المزدوج؟!