ماذا يريد السوري: دَعُونا نتحدث بالبسيط جداً، بعيداً عن أي تعقيد، البسيط الذي يتحول إلى هادئ للعمل.
ماذا يريد السوري؟ قبل أن نجيب عن سؤالنا ماذا يريد السوري علينا أن نجيب عن سؤال ماذا تريد الجماعة الحاكمة؟
الجماعة الحاكمة ترى سورية غنيمة، والسلطة بكل أدواتها الهمجية لا وظيفة لها سوى الحفاظ على هذه الغنيمة،أي أن السلطة ملكية جماعة ذات عصبية ضيقة وأداة خاصة للاحتفاظ بالغنيمة وإدارة شؤونها. وكل مَن منحته الجماعة الحاكمة فضلات قوة لحماية الغنيمة تَشكَّل وعيه بأنه له حق في الغنائم. إن مَن يظن بأن الجماعة الحاكمة -ومَن منحته الجماعة فضلات قوة- قادرة على مجرد التفكير بالتخلي عن جزء بسيط من غنيمتها يتجاوز حدود الوهم. وعليه، إن مَن لا يميز بين الوطن والانتماء إلى معنى الوطن بوصفه حقل الحرية والكرامة والأمان ومفهوم الغنيمة بوصفها قتلاً وسلباً وفساداً ليس أهلاً لصناعة المستقبل.
ولهذا فإن جماعة أطلقت النار على المتظاهرين السلميين، وزجَّت بالآلاف منهم في السجون وصَفَّتْ أكثرَهم، وألقت آلاف البراميل على المدن و القرى، وضحَّت بأكثر من مئتَيْ ألف من خيرة شباب الساحل، وقتلت أكثر من نصف مليون شاب من الداخل، ويعيش مليون ونصف من المعاقين، وهجّرت خمسة ملايين خارج الوطن، ومثلَهم داخل الوطن واستدعت مئة وسبعين ألفاً من الوسخ التاريخي الميليشياوي الطائفي من لبنان وإيران والعراق وأفغانستان، وخلقت شروط ظهور الوسخ التاريخي المضاد القادم من بلدان كثيرة واستدعت إمبراطورية عسكرية للحفاظ على وُجودها في السلطة وفقدت السيادة على أجزاء مهمة من أرض الوطن لا يمكنها التخلي عن أي عنصر من عناصر سلطتها في مباحثات يرأسها شخص لا يملك من أمره سوى توجيه واحد من سيده: عدم القبول بأي شيء مهما كان صغيراً وبسيطاً.
ولأن ماذا يريد السوري؟ يعني ماذا تريد الأغلبية الساحقة من الشعب.
يريد السوري -السوري حقاً مهما كان أصله وفصله- حياة حرة كريمة سعيدة، وعيشاً بلا خوف وبلا جوع، حياة بلا قتل وخطف وتصفية،حياة ينظر فيها إلى السماء فلا يرى إلا الطيور المهاجرة، أو عصافير الدوري وليس طائرة تحمل له الموت والدمار. أن يعود إلى أرضه دون أي اعتداء عليه من أحد، لا يريد لأحد أن يتسلط عليه ويحدد له طريقة عيشه، يريد جيشاً يدافع عن سيادته على أرضه، وشرطةً تحقق له طريقة فكّ المنازعات، وقضاءً يضمن له الحق، وأجهزة أمن لا علاقة لها بشؤون حياة الناس اليومية. يريد إنتاج سلطة تحفظ الاختلاف الذي يُثرِي الحياة بلا تعصب ديني وقومي وطائفي ومناطقي، يريد ببساطة دولة، بكلمات قليلة، الحرية، الحق، الكرامة، الأمن، اللقمة. هذا ما يريده السوري. وحده متبلِّد العواطف، ساديّ النفس، المُعاق عقلياً واجتماعياً، والقاصر أخلاقياً مَن يرفض ذلك.
هذا الجواب عن سؤال ماذا يريد السوري يجب أن يكون هو أساس الحل وأساس الخروج من لعبة الأمم.
في إطار هذا الوضوح لما يريد السوري تتكون إرادة المجتمع الكلية التي بإمكانها الانتصار على أية قوة مناقضة لإرادته. سواء أكانت قوة داخلية أم قوة خارجية.
هذا هو المستقبل الذي يليق بحجم الدماء التي سالت، وحجم العذابات التي عِيشَتْ، وأنهُر الدمع التي جرت، أن تكون سورية الجديدة سورية المستقبل هي الإرادة الحرة بكل صفاتها السابقة الذكر.
بل أقول لكم: إن دفن الأحقاد وتجاوُزها، وبناء أساس للعيش المشترك، مستحيل دون سورية الجديدة التي رسمنا ملامحها. ودون عَقْد اجتماعي جديد يقوم عليها.
وَاهِمٌ ووَاهِمٌ جِدّاً جِدّاً كل مَن يعتقد بأن الجماعة الحاكمة في دمشق يمكن أن تتخلى عن أي عنصر من عناصر بِنْيتها الطاغوتية القمعية، حتى لو شعرت بالعجز. الدكتاتورية بِنْية إذا انهار أحد عناصرها الأساسية انهارت. وإن ذِهنيَّةً تكوَّنَتْ على امتداد نصف قرن ونيِّفٍ تقوم على نَفْي الآخر بكل أساليب النفي لا يمكن لها أن تتغير. ولهذا فإن اجتراح أساليب شعبية جديدة للكفاح تقيم قطيعة مع الضرر الكبير الذي ألحقته "داعش" و"النصرة" بثورة الشعب أمر في غاية الأهمية لتحقيق إرادة السوري.
فالوطن هو: حق، أمان، حرية، كرامة، شعور سعيد بالانتماء. تدمير الوطن سلب لهذا الوجود كله أو أكثره أو بعضه. الوطن السَّلِيبُ هو الخالي من الوجود الحقيقي سالف الذكر، الوطن السَّلِيبُ هو الوطن الذي دَمَّرَتْ فيه الجماعة الحاكمة سورية الحقيقية أو كما يجب أن تكون. كل مناقشة حول سورية تخرج عن تعريف الوطن الذي ذكرت فهي عبث دولي وخبث سلطوي وغباء مُعارَضة وتحايل رمادي.
بقي أن نقول: إن أي حل في سورية لا يمكنه الخلط بين دكتاتورية قديمة وأشكال زائفة من الديمقراطية.
بِنْيتان متناقضتان لا تتعايشان أبداً في السلطة إما وإما. هذا هو المنطقي والواقعي.