بعد كل ما جرى في سورية، وفي ضوء المساعي المحمومة في إعادة تأهيل أو تكرير "المنظومة الأسدية" التي تسببت بمأساة سوريةٍ قلَّ نظيرها عالمياً؛ وبعد مجاراة منظومة الاستبداد لهذا النهج في طمر وإغفال الحقائق؛ وفي ظل غفلة عالمية؛ وبعد أن وصل الحال السوري الشعبي اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً إلى نقطة يأس كارثية؛ ما التصرف المُتَوقَّع من منظومة الاستبداد، إذا ما نجحت عملية إعادة تكريرها؟
منذ عامين، كنت قد طرحت هذا السؤال عَبْر منصات التواصل الاجتماعي، ليس بغرض إجراء بحث علمي مدعّم بإحصاءات لاستطلاعات رأي، بل هو مجرد سؤال عما يتوقعه آلاف السوريين من "نظام الأسد" إذا ما "انتصر على شعبه". وبعد عامين، وفي هذا المفصل الزمني، يفرض السؤال ذاته ثانيةً، ولكن في ضوء مستجدات وتطوُّرات الفترة الماضية؛ وفي ضوء حملة إعادة تكرير "النظام".
قبل تقديم القراءات المتوقعة لموقف وسلوك "نظام الأسد"، إذا ما نجحت عملية إعادة تكريره، لا بُدَّ من تأكيد مواصفاته العضوية الأساسية والتي ثبّتها وكرسها في ممارساته وأفعاله بسورية وشعبها خلال العقد المنصرم. النسبة الكبرى من الشعب السوري ترى أنه نظام لم تشهد البشرية له مثيلاً في صلفه وجبروته وحقده؛ فهو نظام مستعدّ لفعل أي شيء كي يحافظ على وجوده؛ وهو لم يعرف الصفح أو التسامح، ولم يَرَ في السوريين إلا رعية أو جراثيم، ولم يَعْتَدْ منهم سوى الخضوع والخنوع والخوف والطاعة المطلقة؛ إنَّه نظام لا يحتمل أي خروج عليه، ولا يحتمل سماع كلمة ((لا)). وإن تجرأ أن يقولها أحد، فعليه أن يتوقع أقصى العقوبات؛ وقد يكون أهونها الموت. ولهذا كان لصرخات السوريين في الحرية والكرامة هذه التكلفة الباهظة.
بداية، لو أن مساعي إعادة تكرير النظام تتم في ظل ما ادَّعاه "نصراً"، لكان أكثر جنوناً وعنفاً وأشدَّ فتكاً وانتقاماً مما كان عليه في حياته؛ سيتحول القتل وتصفية الحسابات إلى سياسة يومية ممنهجة. وسيتلازم هذا الأمر مع انتشار عصابات القتل والتعفيش والتهجير باسم مكافحة الإرهاب أكثر بكثير مما نراه الآن، وسيتم تفعيل محاكم الميدان الإرهابية إلى الحد الأقصى؛ وستشهد البلاد مليون مفقود جديد.
ستقوم أذرع النظام السرطانية بشنّ حملات تصفية تطال المنشقين والمعارضين في الداخل وفي بلاد اللجوء، وسيساهم ذلك بإحداث التغيير الديموغرافي المنشود في الداخل وفي بلاد اللجوء؛ وسيساهم ذلك كلُّه بإحداث التغيير المنشود عَبْر تهجير المواطنين وتوطين الميليشيات الأجنبية وسَوْرَنتها، وهنا تأتي القرارات الخبيثة كتغيير "الهوية السورية"، ومؤخراً "المجلس الفقهي".
وبحكم أن هذه المساعي في إعادة التكرير تأتي في ظل انكشاف حقيقي لهذه المنظومة الاستبدادية، والبلد فعلياً ممزق بجملة من الاحتلالات فيها يتحوّل جيش المنظومة إلى ميليشيات للتعفيش والانصياع لإرادة الإيراني أو الروسي، والوضع الاقتصادي والاجتماعي في حالة انحدار وتهتك غير مسبوق؛ فما الذي سيتصرفه "نظام الأسد"، إذا ما تمت إعادة تكريره؛ وهكذا حاله وحال سورية الآن؟
إذا اعتقد قادة حملة "إعادة التكرير" بأنهم سيعيدون خلق النظام من جديد؛ فهم واهمون؛ إعادة التكرير لا تعني مسح الذاكرة السورية، ولا محو جرائم الحرب التي ارتكبتها هذه المنظومة بحق السوريين. وإذا كان الاعتقاد بأن العقوبات ستُرفَع، والدعم سيتدفق، وإعادة الإعمار ستنطلق بمجرد أن تمت بعض لقاءات مع مَن حتى أعناقهم غارقة بدماء السوريين؛ فهذه بهلاوانيات لا علاقة لها بالسياسة. وبهذا ستكون الشعارات الإنسانية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة ومحاسبة مجرمي الحرب من قِبل دول العالم الأول مجرد خزعبلات وظواهر صوتيَّة.
إذا كانت إعادة التكرير مشروطة بتسوية بين الروس والأمريكان واللاعبين الإقليميين الآخرين، فعندها سيتم تقليم أظافره وأنيابه وتحويل منصب الرئيس إلى منصب فخري مجرد من الصلاحية؛ الأمر الذي لا تحتمله منظومة الاستبداد. ذلك سيكون الصاعق الذي يقلب كل حملة إعادة التكرير على رأس أصحابها.
حتى ولو مرّت تلك الحملة، فإن أصحابها يدركون أن الكيان القائم تحت سيطرة المنظومة ليس فقط خارج سيطرتها، وإنما يفتقد السيادة والمقومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تؤهل أو تعيد تأهيل كيان ما؛ فقرارها ليس بيدها، ولا سيادة لها.
وحتى أولئك الذين يتحكمون بقرارها تتضارب مصالحهم من جانب، وتتناقض مع قوى أخرى ترفض المنظومة بالمطلق.
في ظل ذلك الضعف والاهتراء ونزع الأنياب والانكشاف الكامل لمنظومة الاستبداد، سنراها تتحول إلى ذئب مفترس بجِلْد حَمَل يحاول تغيير سلوكه نظرياً لاستمالة الفئة الصامتة والمُنهَكة، وسيحاول التقرب من الشعب، ويسعى لنيل تأييد الأنظمة العربية، وسيتخلص في الوقت نفسه من كل مَن يعتقد أنه عارضه أو سوف يعارضه؛ ولكن من غير المعقول أن مَن قتل الشعب ودمر البلد يستطيع أن يحكم البلد وهو يعلم علم اليقين أن الحجر والشجر والبشر ستنتقم ممن كان سبباً في دمار البلاد والعباد.
وهنا لن يبقى أمام العصابة الحاكمة إلا البوابة الإسرائيلية؛ والتي لن تقبل إلا تقارُباً دون مُوارَبة- ما يعني بقاء الجولان السوري المحتل تحت السيادة الإسرائيلية، إن لم يكن هناك تمدُّد إسرائيل إلى ما بعد الجولان- ذلك سيكون حقيقة الأمر الخيار النهائي والانتحاري القاتل لمنظومة الأسد.
فهو عاش على "المقاومة والممانعة"؛ وأن يأتي الانكشاف العلني، فهذا هو النهاية المَحتُومة.
{يتبع، في الجزء الثاني- الأسبوع القادم}