”نداء بوست“ – محمد جميل خضر- عمّان
المدُّ والجزرُ في العلاقات الأردنية السورية، قديم قِدَم تأسيس النظام السياسي الحديث في الدولتيْن.
وفي حين لم يمكث الملك فيصل سوى شهور قليلة بوصفه ملكاً يدير شؤون المملكة العربية السورية (الدولة التي فرّختها مخرجات المؤتمر السوري العامّ، أو المؤتمر السوري الكبير في عام 1919)، فإن مؤشرات هذا العامل الطارد للنظام الملكي، وجدت جذوراً لها في الوعي المدينيّ السوري (الشاميّ) الحديث والقديم.
الوعي الجمهوريّ السوريّ الحديث المتقاطع مع مفهوم (الجمهورية) في الأدبيات الفرنسية، لم يتحقق واقعاً سوى مرّات متقطعة السبل في التاريخ السوريّ الحديث.
وربما من مفارقات الأشياء هُنا، أن الرؤساء السوريين الأكثر تماهياً مع مفهوم الدولة الحديثة، ومع روحها التي تتنفس ديمقراطية وتناوب سلطة وأحكام صندوق، هم الأبعد عن العسكر (هاشم الأتاسي، ناظم القدسي، وربما، ولو بدرجة أقل، تاج الدين الحسني، وعدد قليل آخر)، والأقرب، لمزيد من المفارقات، من السياسة الأوروبية، الإنكليزية والفرنسية على وجه الخصوص، بعيداً عن اتهام تاج الدين الحسني بالقرب من السياسة الألمانية أيامها. وهؤلاء بجلّهم (أقصد الأقل طغياناً ودكتاتورية عسكرية في التاريخ السوري الحديث)، كانوا -لمفارقة أخرى- أقرب نحو أفق سورية الجنوبي: الأردن والسعودية والنظم الملكية عموماً (العراق مثلاً أيام ملكيته)، حتى أن ناظم القدسي قضى أخريات أيامه في الأردن، ومات ودفن في العاصمة الأردنية عمّان عام 1998.
لعل ما تقدم يحكم الجزء الأهم من العلاقة الأردنية السورية، فالأردن الرسمي الذي ظل موضع شك من جمال عبد الناصر زعيم القومية العربية في ثوبها الشعبوي، كان يقترب من سورية الرسمية أو يبتعد عنها، بالاحتكام إلى علاقة عكسية مع المد الشيوعيّ القوميّ فيها، فكلما اعتلى حزب البعث العربي الاشتراكي، أو حزب قريب من اليسار، أو محسوب عليه، أو قريب من القومية العربية، أو محسوب عليها، سدّة الحكم في سورية، كلما ساد العلاقة بين البلدين العربيين اضطراب، وتغلغل الشك، وصولاً إلى التآمر، أو على الأقل تبادل التهم حوله. هذا ما حدث مرّات ومرّات، وهذا ما وصل ذروته من القطيعة وتبادل الطعنات، وصولاً إلى احتمالات الحرب، بعد انقلاب حافظ الأسد في عام 1971، وقبل ذلك، كانت الأمور وصلت خلال حرب أيلول (أيلول الأسود) عام 1970، مواصل حرجة ونذر حرب.
والحال كذلك، لم يبرّئ النظام السوري نهاية سبعينيات القرن الماضي، النظام الأردني من يدٍ ما له بما جرى من أحداث في إدلب وحلب ودمشق وحماة (الحرب على (الإخوان المسلمون) أو الحرب ضدهم أو معهم). تلك الأحداث التي بلغت ذروتها عام 1982 مع قصف حماة وتدميرها فوق رؤوس أهلها، وما سبقه عام 1980، من جريمة مروّعة في سجن تدمر العسكري الصحراوي.
كما أن الأردن الرسمي لم يتردد في عام 1984، من عرض عدد من السوريين على شاشته الرسمية التي لم يكن متاحاً للجمهور المُشاهد غيرها، متهماً إياهم بالتآمر على العرش الهاشمي، ومحاولة زعزعة الأمن في البلاد.
مع اندلاع الثورة السورية أواسط آذار/ مارس 2011، بوصفها جزءاً من حراك عربي عارم انفجر بوجه طغاة الأمة من "المحيط الهادرِ إلى الخليج الثائرِ"، تمثّل الموقف الأردني الرسميّ باضطراب واضح حول ما يجري مع جارته الرابضة على امتداد حدوده الشمالية؛ فمن جهة يشوب جزءاً كبيراً من الموقف الأردني، عادة، تأثرٌ جليٌّ بحسابات إقليمية ودولية معقدة، ومن جهة أخرى، هو محسوب أكثر ما يمكن أن يكون محسوباً على المعسكر الغربي.
أي بمعنى، وبحسب أدبيات الحرب الباردة، فإن الأردن الرسمي ولا مرّة كان محسوباً على المعسكر الاشتراكيّ. ولكنه من جهة ثانية، كان شريكاً في حراك خليجي (الإمارات والسعودية على وجه الخصوص) مصري يشن حرباً شعواء على الإسلام السياسيّ على وجه العموم وعلى (الإخوان المسلمون) على وجه الخصوص، ولأن ولا ثورة من ثورات الربيع العربي إلا وتلوّنت، أو تلوّن جزء منها على الأقل بألوان الإسلام السياسيّ، فإن الموقف الأردنيّ الرسميّ من (الحالة السورية) يشبه عنوان كتاب فلاديمير لينين: "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء".
ظل الموقف الرسميّ الأردنيّ يَتبَنْدل (من حركة البندول) بين هذين المتناقضيْن، مع الإعلان الدبلوماسي المتكرر على ضرورة عدم التدخل الخارجي في الشأن السوري، وعلى عناوين من مثل محاربة الإرهاب، وعلى سيادة سورية (دون توضيح من هي سورية المقصودة هنا الشعبية أم النظامية)، إلى أن فرضت الحسابات الاقتصادية منذ عامين أو أكثر نفسها، وعادت حركة الشاحنات والبضائع انسيابية بين البلدين الشقيقيْن الجاريْن، خصوصاً في الشق الزراعي من التبادل التجاري المتفق عليه مجدداً بين حكومتَيِ البلدين.
على صعيد قضية اللاجئين السوريين عَبْر المعابر الشمالية والشرقية الشمالية من المملكة الأردنية الهاشمية، فرغم تكرار الأردن الرسميّ مراراً أنهم عبء وأن أزمتهم تمتد لغيرهم، لكن -والحق يقال- لا يشكّلون هذه المعضلة، في ظل المتابعة الحثيثة للمفوضية الأممية المعنية بشؤونهم، وفي ظل تحمّل الأسرة الدولية العبء الأكبر جراء نزوحهم ولجوئهم وهروبهم من براميل الموت. وفي ظل ما يملكه الأشقاء السوريون من مهارات تجارية وصناعية وخدماتية، وبما يملكونه من روح المبادرة والريادة الاقتصادية، إذ حققوا في هذه الحقول نجاحات مبهجة، وكثير منهم صار صاحب مصلحة، والأردنيون زبائن لدى مصلحته.
على الصعيد الشعبي
الأمر لم يجر على الشاكلة نفسها، عند انتقال الحديث للعلاقة الشعبية، أي علاقة الشعبيْن السوري والأردني بعضهم بعضاً. فعِلاوة على الحجم اللافت من المصاهرة بينهما، ومن الوشائج المشتركة والأصول العائلية/ العشائرية نفسها عند عدد غير محدود من أبناء الأردن وأبناء سورية، فثمة عامل مهمّ في هذا السياق يلعب دوراً أساسياً، إنه العامل المتعلق بالتنوّع الخصب المنحدرة منه مكونات المجتمع الأردني منذ مطالع القرن الماضي.
فها هي عمّان يتشكّل طابعها التجاري مطالعه، أساساً، من عوائل شامية وتجار شوام. كما أن "معان" حاضنة الثورة العربية الكبرى، تنقسم إلى قسمين رئيسيين: "معان" الحجازية و"معان" الشامية، وهو تقسيم يعود للعدد الكبير من الثوار العرب الآتين من الشام وحمص والسويداء ومدن سورية أخرى للمشاركة في رصاص ما بعد الرصاصة الأولى، ولمواجهة الإمبراطورية العثمانية في زمن أفولها، الذين استقر كثير منهم في "معان" إبان إقامة الأمير عبد الله بن الحسين بن علي فيها. كما أن المكوّن الفلسطيني الأساسي في الديموغرافيا الأردنية (ما يقارب نصف عدد السكان من أصول فلسطينية)، ممن تسكنهم روح شآمية وحدوية، وممن تشكّل عناصر التقارب المجتمعيّ المدينيّ بينهم وبين السوريين أضعاف عناصر الاختلاف التي قد تعيق هذا التقارب الساطع. ثم إن كثيراً من الفلسطينيين المقيمين في العاصمة عمّان، أو مدينة رئيسية أخرى مثل إربد أو الزرقاء أو غيرها، ممن لهم أقارب في مخيمات اللجوء الفلسطيني في سورية، خصوصاً مخيم اليرموك أكبر المخيمات الفلسطينية على الإطلاق في كل دول الشتات الفلسطيني. دون أن ننسى أن انتقالاً واسعاً شهدته حواضر سورية منها إلى عمّان وحواضر أردنية أخرى بعد أحداث حماة 198.
انتقال تشكّل بمعظمه من أهلٍ حمويين وجدوا في الأردن ملاذاً يحفظون خلال وجودهم داخل أمنه وأمانه، دينهم ومذهبهم السنّيّ.
ثم إن سورية حتى العام 2011، شكّلت وجهة سياحية دافئة وممكنة ومتنوعة الأهداف عند راغبي السفر من الأردنيين قليلي الدخل، أصحاب فوبيا الطيران، ممن كانوا يركبون أول سيارة تنادي (الشام واحد) في كراج العبدلي، ويتوجهون من فورهم إلى معبر نصيب، مروراً، بعد ذلك، بدرعا نحو الشام وما هو أبعد منها (وصولاً إلى بيروت بعد إلغاء الحاجة لتأشيرة كي يدخلها الأردنيون). فخلال مدٍّ رسميٍّ شهدته العلاقة بين البلدين، سُمِح بالتنقُّل بينهما دون جواز سفر. مدٍّ طال رسوم العبور فلم يعد الزائر بالاتجاهين يدفعها.
انشقاق عمودي
الانشقاق العمودي الموجع الذي حدث في شكل علاقات أبناء الأردن من مختلف الأصول والمنابت بأهل سورية، جاء بعد اندلاع الثورة قبل عشرة أعوام، إذ جرى استقطاب رهيب: فريق قومجيّ يساريّ مع النظام تحت ذرائع المقاومة والممانعة (والمماتعة على رأي فيصل القاسم)، وفريق حتى من الجذور الفكرية نفسها أحياناً (يساريون على عروبيين على غيرهم) مع الشعب السوري، مؤمنين أن له الحق بالحرية والكرامة، شأنه شأن شعوب العالم قاطبة. وصل الخلاف ذُرى غير مسبوقة طال انتخابات رابطة الكتّاب الأردنيين، وباقي النقابات المهنية، وعموم الأنتلجنسيا المعرفية والثقافية والاجتماعية والمهنية، خلاف تضمّن التخوين والتهديد والتجديف وقل ما تشاء من قائمة تطول.
مدّ وجزر يبدو أن البندورة وخضراوات أخرى نجت منه، فها هي تأتي من سورية إلى الأردن، ونجت منه كذلك أنواع عديدة من نباتات الزينة، إذ يبدو أن قلب عبد الوهاب (اسم نبتة زينة يستوردها الأردن من سورية) ما يزال ينبض بدم العروبة ودقات الدفء.
دون أن ننسى التفاح الزبداني، وتفاحيات أخرى كثيرة تأتي من غوطة دمشق (جنة الله في الأرض)، تحمل في أوردتها حلاوة ممزوجة بالأسى، فهي بقيت هناك لتباع هنا، في حين مضى معظم أهل حواضرها ومن زرعوا أولى فسائلها لاجئين في بلاد الأرض، باحثين عن يقين.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية