سورية التي انفجرت ثورتها في آذار/ مارس 2011، كانت تبتغي قيام دولة مُواطَنة مدنية تعدُّدية، ولهذا هَتَفَ الشعب في مظاهراته السلمية (الشعب السوري واحد)، هذا الشعار، يدلّ على تذويب أيِّ امتيازات أو فُروق بين مكوّنات المجتمع السوري، سواءً كانت عرقية أو دينية أو طائفية أو غير ذلك من عوامل التمييز.
الشعب السوري واحدٌ، أي أن هناك دولة تظلل كل المكونات سابقة الذكر تحت سقف واحد هو سقف المواطنة، ونعني بالمواطنة أن كل الذين يحملون الهُوِيَّة السورية هم مُتساوُون بالحقوق والواجبات، وبالتالي هم يمتلكون روح المبادرة على بناء دولتهم ومجتمعهم، من خلال قدراتهم المختلفة والتي تكمّل بعضها بعضاً لتُثمر تنميةً شاملةً على صُعُد الاقتصاد والثقافة والبناء الاجتماعي الوطني، حيث يغتني هذا البناء بتعدُّد منابع الثقافة وَفْق تعدُّد مصادرها الاثنية.
لكن ما ينبغي الدلالة عليه، هو أن مفهوم المُواطَنة ينشأ من تطوُّر البِنْية السياسية الوطنية، وانتقالها من سلطة المكونات ما قبل الوطنية، كالدينية والطائفية والعشائرية.
سلطة المكونات ما قبل الوطنية تستمد قوتها وفعّاليتها في سياق اجتماعي لم يبلغ درجة من التطور السياسي الذي يذّوب المكونات ويلغيها كحالة سياسية مُبقِياً عليها في حالتها الثقافية والاجتماعية والدينية محدودة التأثير على بناء الدولة الوطنية.
إن وضع دستور وطني لدولة المواطنة لن يقبل البتَّةَ بتثبيت وُجود مكونات ما قبل وطنية، يمنحها حقوقاً سياسيةً، مثل هذه الحالة التي أقرها اتفاق الطائف للبنان، حيث احتفظت المكونات اللبنانية الدينية والاثنية والطائفية بحقوق وامتيازات سياسية، هذه الامتيازات أبقت بناء دولة المُواطَنة في حالة تجميع وليس انصهاراً في بوتقة الوطنية.
في الوضع السوري الجديد، لا يمكن التوافق على اتفاق طائف أو ما شابَهَ ذلك؛ لأن البِنْية التاريخية للشعب السوري هي بِنْية تتجه في تطوُّرها نحو دولة المواطنة، وأن استعارة دور عشائري أو طائفي في مسألة بناء الدولة لن يكون سوى دعوة لتفجير هذه الدولة عند أي مفترق سياسي بين مكوناتها، فالحفاظ على دور سياسي للطوائف أو الأديان أو القبائل والعشائر، هو عملياً وَضْع ما يُفجِّر البناء الوطني في أي منعطف سياسي.
إن دستوراً وطنياً لا يمكنه القبول بالاعتراف بحقوق الطوائف وبقية المكونات ما قبل الوطنية، ولهذا يمكن لكل السوريين من مختلف مكوناتهم ما قبل الوطنية، أن يكونوا بصيغتهم الوطنية جزءاً من بناء الدولة الجديدة، ألا وهي الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، والمقصود بهذه العبارة، أننا أمام دولة ديمقراطية، تعتمد على تداوُل السلطة من قِبل أحزاب وطنية، كل حزب فيها يضمّ أفراداً من كل المكونات السورية، وتحديداً المكونات الدينية والطائفية والقبلية العشائرية.
هؤلاء الأفراد ينخرطون في العملية السياسية باعتبارهم مواطنين مُتساوِينَ في حقوقهم وواجباتهم، وليس باعتبارهم ممثلين عن طوائفهم أو قبائلهم أو أديانهم.
الدستور الجديد التعدُّدي ينبغي ألا يقع في فخِّ الإشارة إلى دور سياسي لأي طائفة أو جماعة دينية أو قبلية عشائرية، فمثل هذا الفخ هو إبقاء لنار تمزق الوحدة الوطنية تحت الرماد الدستوري.
وَفْق هذه الرؤية، وحين نتحدث عن دولة مؤسسات وطنية ومُواطَنَةٍ، فنحن نذهب إلى جعل كل العناصر الثقافية والاجتماعية لكل المكونات السورية تصبّ في بناء ثقافة وطنية متعددة المصادر، مما يغنيها بعضها ببعض، ويخلق جسوراً بينها تسمح بتبادل المعرفة والفنون وغيرها من الممارسات ذات الطابع الثقافي المعبِّر عن المكوّن أيّ مكوّن.
إن النقاشات الهادفة إلى تَبَنِّي صياغات ذات عمومية كمفهوم السيادة الوطنية، الذي يطالب به نظام الأسد، إنما الغاية منها هي الهروب إلى أمام، حيث لعب النظام دوراً خطيراً في استدعاء الخارج الأجنبي انطلاقاً من وَهْم شرعيته، وبهذا فهو يقصد بالسيادة الوطنية دور أي قُوًى معارضة تجد من يدعمها في مواجهة عُدْوان النظام على الشعب السوري وعلى ثورته.
السيادة الوطنية هي واحدة لا تتجزّأ، وهذا ينبغي إقراراً من النظام بأن كل القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري ينبغي اعتبارها قُوًى يجب أن تنسحب جميعها من الأراضي السورية بقرار من الأمم المتحدة وبإشراف دولي حقيقي يعمل على تسهيل خروج كل هذه القوات.
لهذا فالعملية متكاملة في صياغة دستور وطني جديد تعدُّدي، يسمح بانتقال سياسي صريح من دولة الاستبداد الطائفية إلى دولة المُواطَنة الديمقراطية.
وَفْق هذه الرؤية، نجد أن مفاوضات "جنيف" لا تزال تتعرَّض لعَرْقَلة مقصودة، وتَهَرُّبٍ من قِبل النظام لاستحقاقات هذه السلة الدستورية والتي هي جزء من القرار الدولي "2254 /2015".
النظام لا يريد صياغة دستور يُغيِّر من بِنْيته الاستبدادية، ولهذا ربما يجنح إلى استخدام أوراق سياسية تخصّ المكوّنات التي يُسمِّيها أقليات، فهذه المكونات الدينية والطائفية والقبلية العشائرية كلها تعرّضت للقهر وانتهاك الحقوق من قِبل دولة الأسد الأمنية القهرية.