ينشر بالاتفاق مع الكاتب
لا تتعامل الدول بسذاجة مع أعدائها ولا عملائها، ولها من وراء كل خطوة هدف، وقد ترتكب أخطاء قاتلة نتيجة اجتهاداتها، والحسابات الدقيقة للأرباح والخسائر قد تخفق تماماً،
وربما تتآكل النتائج مع الوقت. يبني الكثيرون تقديرات غير دقيقة نتيجة التحليل الحدّي للأمور. إخفاق الدول لا يعني نهايتها، بل تحولات مختلفة في المسارات المنهكة للقوى الأصغر.
لا يوجد سوريٌ مخلصٌ يقبل بالنظام الديكتاتوري الدموي المتوحش في بلاده، فضلاً عن وجود جندي أجنبي أو أصبع سياسية غريبة في وطنه. السعي لإنقاذ سورية ليس فريضة وطنية فحسب، بل إنسانية بكل إطلاقاتها، وقد علّمتنا الأيام المرة أنّ الدول تحافظ على مصالحها وخطوطها الحمراء ولا تهتم لآلامنا الوطنية، لذا فوضع رؤية لحل مشاكلنا هي واجبنا، وبعدها لا بد من تفعيل هذه الرؤية، ثم تحديثها باستمرار وإلا أصيبت بالعُقم. بناءً على ذلك فقراءة المشهد بدقة عمل لا يمكن التساهل به، فالقراءة الضالة تدفع إلى وديان الإحباط والانكفاء.
شعر الكثيرون بالإحباط الشديد من تصريحات الرئيس بوتين تجاه الأسد، واعتبروه منعطفاً خطيراً لدعمه وبعث الروح في نظام متهالك، وعكس كل التحليلات فقد استمعت في اجتماع مميز إلى تحليل هو الأقوى من كل ما مرّ معي: لم تتم إهانة بشار يوماً كما أهين منذ أيام.. وهو الذي فقد منصب الرئاسة إلا في وسائل الإعلام.
مجرد محافِظ من الدرجة العاشرة يُستدعى من قِبل الجهة التي يعمل لديها دون حاشية ولا مرافقين ولا وزير خارجيته ولا دفاعه ولا مسؤول مخابراته ولا أي مستشار له، ودون استقبال بروتوكولي على أي مستوىً،
بل حتى دون علم لم يحترمه يوماً حتى ينصب له، وبكل صبر يقول القيصر لتهدئة توتر بشار: أهنّئك بعيد ميلادك (الذي لا يساوي عند السوريين إلا بصمات الدم والجريمة سنة بعد أخرى)، ثم يقال له ما خلاصته مع دمج ما على السطور بما بين السطور: لك أكثر من عشرين عاماً تتاجر بشعبك وبلدك وحتى داعميك ومعلِّميك وتتظارف زاعماً أنّك ستجري إصلاحات جذرية؟ ونحن نصبر عليك، وتتذرّع مرة بالإرهابيين ومرة بالتطرف ومرة بفقدان السيطرة على الأراضي ومكافحة الثائرين، ومرة بالدعايات المسمومة التي تفرّق الشعب السوري وتمنعك من القيادة الأسطورية لهم. حسنٌ أنت الآن في أحسن أوضاعك تحتفل بعيد ميلادك المشؤوم، وفزت بنسبة ماحقة ساحقة حارقة، ف95% من الشعب مصاب بتولّه شديد تجاهك! واستعدت 90% من الأراضي، وقد قضيت على الثائرين، وكل مفاتيح الاستقرار بين يديك (وبشار يستمع بسرور بالغ ظانّاً ذلك إطراء وإعجاباً من رئيس دولة كبرى) ولم ينتبه للفحوى والمضمون: فأرِنا أيها الكذاب المتاجر بكل شيء ماذا ستفعل؟ الظاهر لي أنّ روسيا تتعامل مع النظام بطريقة القمار، فهو سيارة متهالكة يخشى في ضوء التعقيدات المحيطة أن تكون أيّ حركة سبباً لانهيارها، دون إمكانية لإعادة استخدامها ولا تقنع الساحة المحيطة ببدائل أكثر تهالكاً.
(مثال عن الفلسفة التي تثير الإشكالات وتُبقي عجلة النظام العرجاء أكثر قَبولاً هي طريقة التعامل مع العديد من الملفات ومنها اللقاء قبل أسبوع مع المفوض الدولي بيدرسون العائد من دمشق مصاباً بإحباط شديد وأوصل إلى الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية رسائل خلاصتها: لا حل سياسي ولا لجنة دستورية -نحن نرفضها من البداية- ولا إمكانية لتنفيذ القرارات الدولية ومنها 2254، والذي حصل مذهل فقد تصرف أصحاب القرار بعقلية أمنية بعثية تماماً، فتم طلب سحب الموبايلات من الموجودين في الاجتماع، وتم قطع الاتصال مع الحاضرين بوسائل التواصل كيلا يعلم أحد شيئاً، وتفنّن العديدون من الحاضرين في الهرب من التصريح برسائل بيدرسون، لتبقى الخديعة والالتفاف وزرع الأوهام وسائل أغلب القيادة السياسية في الضحك على السوريين بطريقة لا تقلّ فجاجة ولا تنفيراً عن طرق النظام).
هل سنخرج من البعثية المتوحشة الدموية إلى البعثية الانتهازية الركيكة، حسب قول مراقب دولي. عودة إلى موضوعنا: لو أردت كتابة رسائل إلى الحكام الإقليميين والدوليين لقلت لهم: ما وصل إليه الشعب السوري من التشريد والتهجير والتعذيب والآلام والفقر والجوع وسيول الدماء التي سالت منه أكبر من الاستيعاب، وقد يهيمن صاحب النفوذ والقوة، وقد يسكنه الوهم ويتخيل حصول الاستقرار، ولكن إن بقي هذا النظام فالآتي أكثر مرارة مما يتوقع أحد، والخسائر القادمة بعد سنوات لن تقلّ بحال عن خسائر الولايات المتحدة في العراق وليبيا والصومال وكوبا وأفغانستان أو خسارتها المتسارعة لمنظومة أوروبية تنهار يوماً بعد يوم، أو خسائر الروس في المحافظة على الإتحاد السوفيتي وتفكّك دول أوروبا الشرقية وخروج اليمن والعراق وليبيا من دائرة نفوذهم.
الشعوب تسكت وتتعب، ولكنها لا تموت وإراداتها ستفعل فعلها دون ارتياب. رحيل الأسد بطريقة خشنة أو ناعمة مطلب لا يمكن القفز فوقه مهما ستلوّنه أصباغ المصالح، وقَبول بقائه جريمة، والداعمون لها أكثر إجراماً وتوحّشاً، لا يخطر ببال أحد أنّ رئيس دولة كبرى لا يعرف الأوضاع بدقة شديدة، وليس ممكناً أن تكون كلماته تشجيعاً لفرعون العصر الخائب، بل قد يكون إنذاراً علنياً مهيناً لمستخدم فاشل قبل قصّ الرقبة الأخير.
Author
-
الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري المعارض وإمام سابق للمسجد الأموي في دمشق