نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
يصعب، بأي حال من الأحوال، تناول الشأن الفلسطيني دون الانتباه للتفاعل الأردني مع هذا الشأن.
ولهذا الأمر ألف سبب وسبب، تبدأ من أن أصحاب الأصول الفلسطينية يشكّلون مكوناً رئيسياً في الموزاييك الاجتماعي والاقتصادي وفي مختلف تجليات الهوية الأردنية. وإذا نحّينا تقديرات المبالغين جانباً، فإن المكوّن الفلسطيني يشكّل نصف مجموع الأردنيين من شتى الأصول والمنابت. هذا جانب من مسألة خصوصية ما يجري في فلسطين وحول فلسطين بالنسبة للأردن والأردنيين، ومن الجوانب الأخرى حجم المصاهرة بين الأردنيين والفلسطينيين الذي يصل لأرقام كبيرة، بل وكبيرة جداً، وكذلك هذا القرب الجغرافيّ الوجدانيّ الممتد كأطول خط مجابهة مع العدو الصهيوني، حيث لا يفصل بين الوطنيْن سوى نهر وبعض شريط حدودي قبل النهر وبعده.
ثم إن فلسطين والأردن وسورية ولبنان ظلّا حتى ما قبل أقل من مائة عام يشكّلان مكّوناً سياسياً وقومياً ووجدانياً وجغرافيّاً واحداً، ما يزال المتمسكين بمعنى هذا المكوّن يتذكّرون اسمه: بلاد الشام. حتى إن سهلاً واحداً ينتمي لثلاث دول من هذه الدول الأربعة: سهل حوران المنتمي لسورية والأردن وفلسطين، وقديماً لولاية بيروت في العهد العثمانيّ. من عوامل تعزيز خصوصية العلاقة الأردنية الفلسطينية، وجعل التفاعل المتبادل غير مسبوق على صعيد علاقات الدول، قضية الوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس المحتلّة.
زيارة عباس
في الأيام القليلة الأخيرة تجلّى التفاعل الأردني مع الشأن الفلسطيني في ثلاث مناسبات: أولها زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بيت وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، وهي الزيارة التي أثارت حفيظة ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي في فضائها الأردني. وجاءت معظم ردود فعلهم رافضة للزيارة، خصوصاً أن الأردنيين بمختلف مكوناتهم كانوا من أكثر المتفاعلين مع أحداث المسجد الأقصى وحيي الشيخ جراح وسلوان والعدوان على غزة نهاية رمضان الماضي.
المتفاعلون الأردنيون يرون أن هدف الزيارة الوحيد هو التنسيق الأمني، وهو التنسيق المرفوض من عموم الشعبيْن الفلسطيني والأردني. هذا رأي الصحافية تمارا خميس، ورأي معظم المعلقين على تلك الزيارة التي وصفوها بـ(المستفزة) المسيئة للأسرى وللمقاومة الفلسطينية ولكل بيت فلسطيني وضعه عباس وراء ظهره وهو يتوجّه محمّلاً بالهدايا.
معلّق أردني (يسمّي نفسه بالإدريسي) تساءل لماذا جرى استقبال عباس من وزير الدفاع وليس من رئيس الوزراء الإسرائيلي. و90% من المشاركين الأردنيين بتصويت أجرته قناة "الجزيرة" أجابوا بـ(لا) عن سؤال: هل يمكن أن تسهم زيارة عباس بتهدئة الأوضاع في مدن الضفة الغربية وغزة.
سنديانة الأقصى
الحدث الثاني الذي تسابق الأردنيون للتفاعل معه هو رحيل المعمّرة الفلسطينية المقدسية سارة النبالي (إم الوليد) صاحبة صيحة (انكلعوا) التي ما فتئت على مدى 50 عاماً توجهها لجنود الاحتلال المدنسين باحات المسجد الأقصى، وهو ما جعلها تنال لقب "سنديانة الأقصى".
الحاجة سارة (91 عاماً) التي رحلت مع الساعات الأولى من صباح أول أيام عام 2022، لم تتوقف عن مقارعة جنود الاحتلال حتى مرتقى الأنفاس. هاشتاغ #انكلعوا تصدّر أردنياً اليوم لساعات، ونعاها كثير من الناشطين الأردنيين، وأعاد كثير منهم نشر الفيديو الذي حوّلها إلى أيقونة وهي تخاطب جنود الاحتلال الإسرائيلي المتمركزين في باحات المسجد الأقصى قائلة "انقلعوا".
ناشط جعل صورة الحاجة سارة cover صفحته على فيسبوك وكتب تحتها: "نامي بحفظ الله أيتها الجميلة.. فالصمت بعدك مستحيل.. والخيانة مستحيلة.. رح (ينكلعوا) يا أمّ كل شهيد وأسير ومعنى.. يا سنديانة الأقصى وفلسطين.. إن عاجلًا أو آجلًا رح (ينكلعوا) هذا وعد الله ومنطق الأشياء وحتمية النضال وإرادة الجيل الرابع للنكبة.. وعندما (ينكلعوا) لن تحضنهم إلا مزابل التاريخ.. وأما أنت فبانتظارك مشاعل الخلود".
التفاتة "القبس"
التفاتة جريدة "القبس" الكويتية التي اختارت "الشعب الفلسطينيّ البطل" شخصية لعام 2021، شكّلت حقل تفاعل وجيه وممتنّ للجريدة العربية العريقة التي عمل فيها يوماً ما رموز نضالية فلسطينية من طراز غسان كنفاني وناجي العلي. وتحت (مانشيت) عريض "شخصية العام.. الشعب الفلسطينيّ البطل"، امتلأت الصفحة الأولى من عدد اليوم الأول في السنة الجديدة، بصور خاصة بأحداث وقعت في فلسطين: الهروب الكبير لستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الصهيوني، صمود المقدسيين في حي الشيخ جراح، ابتسامات الأسيرات وهن في طريقهن للاعتقال، العدوان على غزة، .
القبس كانت قامت بفعل نبيل آخر عندما وضعت (مانشيت) كبير على صفحتها الأولى كاتبة: "لا للتطبيع" في سياقٍ ردٍّ على موجة التطبيع التي اجتاحت في العامين الأخيرين كثيراً من الدول العربية.
ناشط غيّر صورة بروفايله ووضع مكانها صورة الصفحة الأولى من "القبس"، وكتب تحتها: "شكرًا بعدد الشهداء والأحياء يا قبس الكويت النبيل.. شكرًا تنبض بها القلوب ويرتقي في خفقها الوجدان.. شكرًا من فلسطين كل فلسطين.. من الجغرافيا والتاريخ.. من البر والبحر والسماء.. أعرف أنكم لا تنتظرون الشكر.. ولكن حجرًا في أرضنا الآن يبتسم.. يحفر بالعربية الفصحى حروف الزمن الجديد.. يبني فوق شواطئ عكا وحيفا ويافا.. قبسًا من الأمل السعيد.. الشرف الرفيع أنتم.. وأنتم "القبس" العربيّ العتيد".
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية