كانت محاولات النظام تصنيعَ تيار سلفي جهادي يتحكم به قد بدأت قُبيل الاحتلال الأمريكي للعراق من خلال شخصية أبي القعقاع السوري الذي كان يبث خطباً جهادية من مسجد العلاء في حلب، وكان مساعده أبو جابر الشيخ الذي سيكون قائد حركة أحرار الشام فيما بعد، كما أفتى الشيخ البوطي ومفتي الجمهورية أحمد كفتارو بأن الجهاد في العراق هو فرض عين على الشباب المسلم مما دفع بمئات الشباب السوري للانخراط في الجهاد العراقي والاحتكاك بالجماعات الجهادية هناك، وكان منهم قائد تحرير الشام أحمد الشرع ثم جعل النظام من سورية مَعبراً للجماعات الجهادية نحو العراق وقاعدة للدعم اللوجستي ثم حاول الاستثمار بهذه المجموعات في أحداث نهر البارد في لبنان من خلال شاكر العبسي الذي أُخرج من سجون النظام ليشكل مجموعة جهادية في نهر البارد.
ومع بداية الثورية السورية تبنى النظام سردية أن ما يحصل في سورية عبارة عن مجموعة سلفية تكفيرية تحاول بناء إمارة إسلامية، وفي تلك الأثناء قام النظام السوري بإطلاق سراح سجناء صيدنايا لتعزيز روايته، وتحويل الثورة من ثورة شعب مقهور ضد نظام مستبد فاسد إلى حرب بين نظام مدني علماني وجماعة سلفية تكفيرية، كما قام بتصدير خطاب طائفي ليستفز به الشعور الطائفي عند الأغلبية السنية لحقن الشباب المتحمس بهذا الشعور.
إضافة للممارسة الوحشية في قمع المظاهرات السلمية وشنه حرب إبادة شاملة على الشعب السوري وسط صمت دولي وإقليمي فاضح، جعلت من بعض الشباب السوري يبحث عن منظومة عنف متطرفة يمكنها أن تنتج عنفاً مكافئاً لعنف النظام بعد فشل دعوات الحماية الدولية والحظر الجوي وتخلي العالم عن حمايته وتركه أعزلَ في مواجهة آلة الموت الغاشمة.
ولم تكن السلفية الجهادية صنيعة دولية كما يقول البعض لكن هذا لا ينفي تأثير العامل الدولي في تقويتها وتوظيفها والتحكم بها فقد كانت قوافل المقاتلين الأجانب تتوافد إلى سورية من كل دول العالم وتفتح أمامهم المطارات والحدود بدون أن يُعتقل واحد منهم وهو في طريق ذهابه من هؤلاء الشباب الذين يحملون الفكر السلفي الجهادي، بينما يعلق اللاجئون على الأسلاك الشائكة ويغرقون في البحار، حتى بلغ عدد هؤلاء المقاتلين عشرات الآلاف، والذي لم ينتمِ منهم -ولا مقاتل واحد- لصفوف فصائل الجيش الحر، وشكلوا بذلك عاملاً جاذباً لبعض الشباب السوري للانضمام إليهم ولمشاريعهم والانضواء في تشكيلاتهم.
كما لعب الدعم الخليجي المالي وغير الرسمي والذي تم جمعه من بعض الشيوخ المقربة من التيار السلفي الجهادي والذي كان يتوجه بصورة أساسية نحو الجماعات السلفية الجهادية يدفع بالكثير من القادة إلى تغيير زيهم وراياتهم وخطابهم من أجل الحظوة بالدعم المالي الخليجي بعد إغلاق باب الدعم الدولي أمام الجيش الحر حتى تبنَّى البعض منهم المشاريع التي يتبناها الداعم نفسه، وهو ما أسهم بتضخم الكثير من الفصائل ذات الهوية السلفية الجهادية وزادت من قدرتها على التجنيد للمقاتلين النخبويين والتمدد على حساب الجيش الحر.
وكذلك ساهمت البروباغاندا الدعائية في تضخيم الحجم الحقيقي للتنظيمات السلفية لدرجة أن اغتر بها حتى مَن هو داخل الأرض فضلاً عمن يراقبها من الخارج، إضافة للدعاية السوداء التي تم فيها شيطنة الجيش الحر كمشروع يمكن أن يكون سداً منافساً أمام انحدار الشباب في هذه المحرقة ووصفه باللصوصية والارتزاق والعمالة، وهو الخطاب الذي شكل فيما بعد متكأ لاستئصال الفصائل الثورية المعتدلة تحت ذريعة الحرب على الفساد.
وبدأت المنابر الإعلامية الخاصة بهذا التيار تنشر عملياتها النوعية وشجاعتها في دك مواقع النظام إضافة لخطابها المتطرف الجاذب للبعض.
حتى في الفضاء الإلكتروني بدأ ينزوي الخطاب الثوري المعتدل أمام توحش الخطاب السلفي الجهادي الذي ظهرت له مئات الآلاف من الحسابات والمواقع المناصرة للتنظيمات السلفية، في الوقت الذي كانت تغلق فيه حسابات الناشطين الثوريين.
ولا ننسى كذلك دور العديد من القنوات الإعلامية والشخصيات الإعلامية التي انساقت وراء هذه الدعاية وشاركت في الترويج لهذه التنظيمات بقصد أو بدون قصد.
لقد رحبت الكثير من الفصائل المقاتلة بداية بوجود المقاتلين الأجانب ظناً منها أنهم سيكونون عوناً لها في إسقاط النظام وأنهم مجرد مقاتلين مدفوعين بالغيرة والحمية لنصرتها ولا يحملون أي مشروع سياسي، وفتحت مقراتها لدعاتهم لينشروا أفكارهم بين جنودها ولم تشكل الفصائل الثورية أي حالة ممانعة مع التنظيمات الجهادية وهي في طور الفكرة بل إن الكثير منها بدأ ينجذب إلى ذلك الخطاب ويجاريها في التعبير عن سلفيته وإسلاميته ليحافظ على ذاته من الابتلاع في ثقب السلفية الجهادية الأسود بدلاً من إنتاج خطاب معتدل مقاوم يعزز فيه تمايزه عن الخطاب المتطرف ولم يفطن الكثير من فصائل الجيش الحر إلى خطر هذا الفكر إلا بعد أن بدأت هذه التنظيمات تستدير ببندقيتها نحو الفصائل وتترك قتال النظام بسبب ضحالة الاطلاع على تجارب هذه التنظيمات في دول أخرى.
أعتقد وبعد سرد هذه الأسباب غير الذاتية في المجتمع السوري والتي عملت على تضخم خطاب السلفية الجهادية أو التشبه بها أن السلفية الجهادية كفكر ينتمي إلى أدبيات السلفية النجدية في تكوينها العقدي وأفكار جماعة الجهاد المصرية في فلسفتها القتالية والتنظيمية، لا ينتمي بتاتاً إلى بيئة المجتمع السوري وإنما تعبر في فهمها للدين عن حالة متناقضة جداً مع تدين السوريين الموصوف بالوسطية والاعتدال والانفتاح ولقد كانت مجرد محاولة قسرية لاستنساخ تجارب جهادية سابقة في أفغانستان والعراق والجزائر وصبغ المجتمع السوري بها محاولة العمل على ترسيخها في الثقافة السورية والبحث لها عن جذور تاريخية ولو بتزوير الحقائق حتى السلفية في شكلها النجدي ليس لها أي جذور اجتماعية معروفة في ثقافة المجتمع السوري إلا كحالة فردية، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن السلفية الجهادية هي مجرد ظاهرة طارئة ساهم في وجودها وتضخيمها عوامل ذاتية وموضوعية مؤقتة انتهت بانتهاء هذه الأسباب، لدرجة أننا بتنا نشهد تحولاً جذرياً لتحرير الشام التي بدأت تنحو نحو إنتاج هوية فكرية لا يمكن وصفها بأنها تعبر عن الثقافة المحلية لكن يصدق عليه الوصف بأنها هجينة مختلطة.
وهذا ما يؤكد أن السلفية الجهادية هي مجرد منظومة فكرية سطحية غير متجذرة حتى في ثقافة الشعب السوري وإنما ثقافة أزمة لا يمكن أن تنتشر إلا في بيئة من الاحتراب والحشد العاطفي في ظروف استثنائية تفرضها بيئة التوحش.