لقد تحرّك الرئيس بايدن بسرعة لإنهاء "الحروب الأبديّة" الأمريكية في الشرق الأوسط مع استثناء واحد صارخ وهو مهمّة مكافحة الإرهاب في سورية، حيث لا يبدو أن الانسحاب مطروح على الطاولة، ومواجهة جيوسياسية عالية المخاطر بين واشنطن وموسكو تؤدّي إلى تعقيد حسابات الولايات المتحدة بشكل كبير.
وقال مسؤولو البنتاغون مؤخراً: إن حوالي 900 جندي أمريكي منتشرون داخل سورية دون أي مؤشر على أن العدد سينخفض بشكل كبير في أي وقت قريب. وتتمثّل مهمّة القوات المعلنة -وبالشراكة مع المتمردين الأكراد السوريين- في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي لا يزال يمثّل تهديداً خطيراً على الرغم من تقليصه من جيش بريّ صريح إلى شبكة إرهابية سرّية.
إن القوات الأمريكية ليست سوى قوّة واحدة في حرب أهلية مستعرة حيث تتقاتل القوات السورية والروسية والإيرانية والتركية والوكلاء وسط انتفاضة سياسية داخلية ضد الرئيس بشار الأسد واندفاع الجماعات الجهادية مثل القاعدة.
ولا توجد مؤشرات واضحة عن الزمن الذي ستعلن فيه الولايات المتحدة -إن كان موجوداً- هزيمة داعش وتشرع في الانسحاب من سورية. وقد حاول الرئيس ترامب ذلك مرتين وفشل في سحب جميع القوات الأمريكية من البلاد، وقد أدّت محاولة واحدة مباشرة إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس حينها.
يبدو أن المهمّة العسكرية في سورية قد توسّعت بهدوء. فعندما أعلن السيد ترامب انتهاء المهمّة لأول مرّة، قال البنتاغون إنّ حوالي 450 جندياً باقون فقط, أما اليوم، فالرقم يتجاوز الـ900 جندي.
وبعد بقاء جنود المهمّة في سورية حتى الآن رغم تتابع رئيسين يتوقان إلى إعادة القوات من المنطقة، فإنه بدا من الواضح أن تلك المهمّة تتناقض تناقضاً صارخاً مع مثيلتها الموجودة في أفغانستان. إن تفاوض السيد ترامب والانسحاب الذي تلاه من قِبل السيد بايدن مهدا الطريق لسرعة سيطرة طالبان على البلاد. فلقد غادرت آخِر مجموعة من القوات الأمريكية من أفغانستان الأسبوع الماضي، في ختام حملة استمرت 20 عاماً والتي تعد أطول حرب في التاريخ الأمريكي.
كما أنهت إدارة بايدن الحرب الطويلة الأمد في العراق مع إبقائها على حوالَيْ 2500 جندي في البلاد، لكنها ستعيد تعيينهم كمستشارين ومدربين عسكريين. ولقد تمّ الإعلان بشكل أساسي عن إنهاء المهمة القتالية الأمريكية هناك.
لكن يقول بعض المختصين: إن سورية حالة مختلفة. فلقد حوّلت مجموعة فريدة من الجهات الفاعلة الدولية والتحالفات الهشّة البلد إلى واحدة من أكثر براميل البارود تعقيداً في العالم, فلا يبدو أن هناك حلاً قصير الأمد يلوح في الأفق.
قُرب سورية من إسرائيل يجذب أعداء الأخيرة إلى المنطقة. فلقد نقلت إيران قواتها إلى سورية ووجدت نفسها بعد ذلك في صراع منخفض المستوى مع القوّة الجوّية الإسرائيلية. كما استهدفت الميليشيات المدعومة من إيران والتي تعمل على جانبَيِ الحدود السورية العراقية بانتظام القوات الأمريكية، وأمر بايدن على إثر تلك الاستهدافات بتنفيذ عدة ضربات جوّية انتقامية ضد تلك الجماعات.
لقد وجدت روسيا أن سورية موضع ترحيب لتوسّعها العسكري عبر الشرق الأوسط. فكان تواجد قواتها أمراً أساسياً لبقاء حكومة الأسد المحاصرة خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ 10 سنوات. في المقابل، بنى الروس قواعد عسكرية دائمة وخضعت معداتهم وتكتيكاتهم العسكرية لاختبارات حقيقية واسعة النطاق.
كما أن وجود القوات التركية هو عامل آخر في المعادلة المتقلّبة. فالجيش التركي يدير "مناطق آمنة" مدنية في أجزاء من سورية، لكن أنقرة كانت على خلاف مع روسيا وحكومة الأسد وحتى مع قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تعتبر تركيا بعض أحزابها تنظيمات إرهابية.
وتعمل القوات الأمريكية كقوّة للمحافظة على الاستقرار إلى حد ما. وبغض النظر عن سبب إرسال الولايات المتحدة قوات إلى سورية في المقام الأول، فإن الانسحاب الآن سيكون له تداعيات كبيرة على المنافسة الأمريكية مع أكبر منافسيها، كما قال برادلي بومان، المدير الأول لمركز القوة العسكرية والسياسية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات.
إن منافسة القوى العظمى مع كل من الصين وروسيا هي منافسة عالمية، وهذا يشمل الشرق الأوسط. وقال بومان في مقابلة مع صحيفة واشنطن تايمز: "إن فكرة أننا بحاجة إلى الخروج من الشرق الأوسط حتى نتمكن من منافسة الصين وروسيا هي فكرة حمقاء, فلروسيا دور رئيسي في سورية، ونحن نعلم أن الأسد ربما لن يكون في السلطة لولا موسكو كما أننا نعلم أن المصالح الأساسية لروسيا هي القواعد التي يوفرها لهم عميلهم الأسد".
وقال: "إذا انسحبنا، سيكون لدينا تأثير أقل… وسيكون المؤثران الرئيسيان طهران وموسكو". وهناك مصلحة أمريكية أساسية أخرى وهي الوقوف مع إسرائيل.… نعلم أن طهران حاولت منذ سنوات إنشاء جسر بري" لتزويد حلفائها الإقليميين مثل سورية وحركة حزب الله اللبنانية.
يقول بعض المحللين إن بايدن ومساعديه تركوا الانتشار السوري في مكانه إلى حد كبير بسبب عدم وجود بديل أفضل.
وكتب عبد الرحمن المصري، زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، أن السيد بايدن "يعمل بسياسة مؤقتة بشأن سورية تفتقر إلى الهدف والاتجاه حتى الآن".
"لقد كان إلى حد كبير استمراراً لسياسة الإدارة السابقة -أي الحفاظ على مهمة استقرار منخفضة التكلفة في شمال شرقي سورية والضغط الاقتصادي على نظام الأسد دون وجود هدف سياسي واضح".
مهمّة مكافحة الإرهاب
في الواقع، حتى لو لم يقل مسؤولو إدارة بايدن ذلك علناً، يبدو من الواضح أن الولايات المتّحدة مدفوعة على الأقل جزئياً بالرغبة في استخدام وجودها في سورية للتحقق من نشاط روسيا وإيران والجهات الفاعلة الأخرى. وقد أصرّ كبار مسؤولي الإدارة في الأيام الأخيرة على أن الولايات المتحدة يمكن أن يكون لها وجود كبير لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أفغانستان، دون وجود قوات على الأرض، مما أثار تساؤلات حول سبب احتياج الولايات المتحدة إلى وجود فيزيائي في سورية.
وقد قال وزير الخارجية أنطوني بلينكين الأسبوع الماضي، مستشهداً بالصراع السوري كمثال رئيسي: "سنحتفظ بقدرات قويّة لمكافحة الإرهاب في المنطقة لتحييد تلك التهديدات، إذا لزم الأمر، كما أظهرنا في الأيام القليلة الماضية من خلال ضرب وسطاء تنظيم الدولة الإسلامية والتهديدات الوشيكة في أفغانستان وكما نفعل في أماكن حول العالم حيث لا يوجد لدينا القوات العسكرية على الأرض".
ورفض البنتاغون الحديث عن الانسحاب، بل وأعلن عن نفيه لتقرير إعلامي إيراني عن انسحاب القوات الأمريكية من ثلاث قواعد في سورية.
فقال متحدث باسم البنتاغون الأسبوع الماضي: "هذا ليس صحيحاً، إن معايير مهمتنا في سورية لا تزال كما هي".
يُعتقد أن تنظيم داعش خراسان، فرع الجماعة في أفغانستان، مسؤول عن هجوم الأسبوع الماضي على مطار كابول الذي أسفر عن مقتل 13 من أفراد الخدمة الأمريكية وأكثر من 160 أفغانياً. فالعلاقة بين داعش في أفغانستان وفصائل الدولة الإسلامية الأخرى، لا سيما تلك النشطة في العراق وسورية، غير واضحة.
وقد لعبت القوات الأمريكية دوراً مركزياً في تفكيك الجماعة الإرهابية التي كانت قوية في السابق، والتي كانت في أَوْجها في عامَيْ 2014 و 2015 فكانت تسيطر على مساحة شاسعة من الأراضي الممتدة بين سورية والعراق. فلقد قللت القوات البرّية الأمريكية والقوة الجوية والدعم اللوجستي في العراق وسورية من التواجد العسكري على امتداد المنطقة للشبكة المتطرفة، على الرغم من أن مسؤولي البنتاغون يحذرون من أن تنظيم "داعش" لا يزال يمثل تهديداً ولا يزال قادراً على شنّ تمرّد منخفض المستوى.
وقال مسؤولو إدارة بايدن: إنهم لا يتصورون تغييرات تلوح في الأفق في الموقف الأمريكي في سورية. ومن المتوقع أن يستمر العسكريون الأمريكيون في التدريب والعمل إلى جانب قوات سورية الديمقراطية وحلفاء آخرين في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ولا تزال الولايات المتحدة زعيمة التحالف العالمي المناهض لداعش، لكن قوات سورية الديمقراطية وحلفاء آخرين يقومون بتنفيذ القسم الأكبر من المهمات على الأرض بدعم من المخابرات الأمريكية والاستطلاع والمراقبة. وقد شوهدت هذه الشراكة في العمل مرة أخرى في أواخر الشهر الماضي.
وقد كتب الكولونيل واين ماروتو، المتحدث باسم عملية العزم الصلب التي تقودها الولايات المتحدة، في تغريدة على تويتر للإعلان عن بعض أحدث المهام المشتركة بين الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية: "في غارتين ناجحتين ضد تنظيم الدولة الإسلامية، كان شركاؤنا في قوات سورية الديمقراطية مع دعم أجهزة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الخاصة بالتحالف، فعّالين في اعتقال 5 إرهابيين والاستيلاء على الأسلحة والمعدات شرق دير الزور في شرق سورية".
وقال: "معاً، نظلّ متحدين في سعينا لضمان هزيمة دائمة لداعش".
وقد أدى النهج الأمريكي في سورية إلى تصعيد التوترات مع موسكو. ففي تموز/ يوليو، انتقد كبار المسؤولين الروس المزاعم الأمريكية بأن لواشنطن الحق بموجب القانون الدولي في القيام بمهام لمكافحة الإرهاب في سورية، حتى بدون إذن حكومة الأسد.
وقالت السفارة الروسية في واشنطن في تغريدة على تويتر: "إنها حقيقة ماثلة اليوم أن القوات المسلحة الأمريكية ليس لديها تفويض قانوني للبقاء في سورية".
وقد ردّ البنتاغون بالقول: إن للولايات المتحدة حقاً واضحاً في العمل في سورية من أجل الدفاع عن النفس.
وقد تؤدي التوترات الأمريكية الروسية الحاصلة في سورية من حين لآخر إلى كارثة قريبة. ففي أغسطس 2020، أدّى تصادم بين آليات عسكرية أمريكية وروسية إلى إصابة أربعة من أفراد الخدمة الأمريكية.
وتقول وزارة الدفاع إن القادة العسكريين الأمريكيين والروس على اتصال منتظم لمنع مثل هذه الحوادث.
المصدر: واشنطن تايمز
ترجمة: عبد الحميد فحّام