المصدر: فورين بوليسي
ترجمة: عبدالحميد فحام
تُقدّم قصة الجاسوسية المثيرة بديلاً لسياسة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الفاشلة تجاه نظام الأسد.
"كل ما يهم هو حماية العميل"، يقوم سام جوزيف بتذكير نفسه بهذه العبارة وسط عاصفة عارمة من الأزمات الشخصية والمهنية بينما يلوح في الأفق تهديد يُعرّض حياة الآلاف من الأبرياء للخطر.
جوزيف، بطل رواية جاسوسية مثيرة لمحلل وكالة المخابرات المركزية السابق ديفيد مكلوسكي، "محطة دمشق"، وهو الذي تمّ تصويره بوضوح كشخص حقيقي. في خضمّ أحداث الرواية يجب على البطل "جوزيف" أن يبحر في عواطفه، العوالم الإدارية الحكومية التي تم التقاطها بدقة والمفارقة والتي وجدت حتى في التجسس، والنوازع الشريرة المتعددة التي تكون خلال مسيرته.
في الواقع، لم يكن حتى جيمس بوند قادراً على إقناع مكلوسكي ضابط الدعم في وكالة المخابرات المركزية منذ فترة طويلة بإخراج 007 من الدرجة الاقتصادية على متن رحلة تقل عن 14 ساعة، حتى مع وجود خطر قدوم العالم إلى نهاية.
سيُقدّر من يتابع القصة من سكان الشرق الأوسط كيف يحبك مكلوسكي عناصر ثقافة المنطقة وتاريخها، مما يجعل المشهد السوري، بشكل مناسب إلى حد ما، شخصية بحد ذاتها. حيث يقوم مكلوسكي بتقديم مشاهد وروائح وأذواق ومشاعر دمشق، وهي واحدة من أقدم مدن العالم المأهولة باستمرار. ربما يكون النطاق الزمني غير واضح بشكل متعمد، منذ أن ضربت موجات الربيع العربي سورية لأول مرة في آذار/ مارس 2011 عندما أجبر اندلاع العنف وعدم الاستقرار السفارة الأمريكية في دمشق على الإغلاق في شباط (فبراير) 2012، كما أن بعض أعمال العنف المتصاعدة من قِبل الحكومة كانت بمثابة تأطير تصاعدت القصة من بعده بفترة.
وبغض النظر عن الدقة الزمنية، فإن مكلوسكي يستمد جيداً من هذه الأحداث وغيرها من الأحداث الحقيقية -مثل الاختطاف عام 1984، والتعذيب، والوفاة اللاحقة لرئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في بيروت ويليام باكلي على يد حزب الله- عملاً مصمماً لجمع المعلومات الاستخباراتية وإرسال رسالة أن القواعد قد تغيرت.
ويلمّح الكتاب أيضاً إلى اختفاء الصحفي الأمريكي أوستن تايس، الذي تم اختطافه في ضواحي دمشق في 13 آب/ أغسطس 2012، على الأرجح من قِبل القوات الموالية للحكومة.
ستصبح محنة تايس أداة سياسية استفادت منها إدارة ترامب في الفترة من 2018 إلى 2020، والتي زعمت أنها تبذل كل ما في وسعها لتأمين إطلاق سراحه من الحجز المفترض للحكومة السورية، بينما، في الحقيقة، كانت المشاعر السائدة في مجتمع المخابرات الأمريكية أنه توفي منذ ذلك الحين.
وبالمثل استثمرت إدارة بايدن في موضوع تايس ولكن مع ذلك، كان موقفها العامّ أكثر تركيزاً على تحديد مصيره النهائي بدلاً من الإشارة إلى أنه ربما لا يزال على قيد الحياة أو أن إطلاق سراحه لا يزال ممكناً.
وبالمثل، يعكس مكلوسكي عملية الاغتيال في 12 شباط/ فبراير 2008 في دمشق لعماد مغنية، رئيس عمليات حزب الله سيئ السمعة والمسؤول عن مقتل مئات الأمريكيين والإسرائيليين، من خلال تصوير عملية قتل أمريكية مستهدفة قانونية ومميتة لـ "إرهابي مُصّنف". وتتوافق التفاصيل العملياتية مع روايات الصحافة الأمريكية التي تزعم أن الموساد، ووكالة المخابرات الإسرائيلية، ووكالة المخابرات المركزية كانوا متواطئين في مقتل مغنية، موضحين كيف نفذوا هجومهم من خلال تفجير سيارة مفخخة بدقة في ضاحية سكنية بدمشق.
عِلاوة على ذلك، يقدم مكلوسكي نظرة حيادية للعملية القانونية والسياسية الشاملة المطلوبة لتفويض ثم تنفيذ عملية قاتلة سرية يمكن إنكارها ظاهرياً.
إن هذه الأنواع من العمليات لا تقتل من أجل الانتقام أو حتى العدالة بل للدفاع عن النفس -بناءً على تبرير تحذير استخباراتي موثوق به من هجمات وشيكة- وهي مطلوبة لضمان الغياب التامّ للخسائر في صفوف المدنيين.
نعم، يقوم مكلوسكي بتطعيم الشخصية المحورية بصفات ومزايا الرجل السيئ النموذجية أحادية البُعد بطريقة تشبه طريقة هوليوود والتي تعتبر ضرورية لإظهار ميزة التشويق التي يخلقها ببراعة. لكنه أيضاً يصوّر اللاعبين الرئيسيين الآخرين في هذه القصة -مثل بطل الرواية وشخصيات وكالة المخابرات المركزية الأخرى بالإضافة إلى خصمه السوري الرئيسي- على أنهم أكثر تعقيداً.
شخصياته قادرة على ارتكاب أعمال عنف مروعة ووحشية في وظائفهم أو أثناء حماية أحبائهم وزملائهم- ولكنهم في نفس الوقت أشخاصٌ محبون للعائلة لديهم رموز شخصية، ويتحركون أحياناً للقيام بأعمال لطيفة.
لقد تعرفت على شخصيات شبيهة لأولئك الإرهابيين ومجرمي الشرطة السرية الموصوفين في الكتاب الذين يمكنهم حب أزواجهم وأطفالهم، والبكاء على القصص الحزينة والأفلام المبتذلة، وكذلك في كثير من الأحيان يتمتعون بسحر وذكاء جارتهم الجميلة.
على هذا النحو، يرسم مكلوسكي النواحي الإنسانية بشكل كامل والقوى العاطفية التي تدفع الحسابات وتكون وراء أعمال وحشية تبدو منفصلة مع انعكاس أكثر غموضاً لـما هو "صواب وما هو خطأ".
يمكن أن نلاحظ استخدام الرئيس السوري بشار الأسد للأسلحة الكيماوية ضد شعبه هو في قلب الرواية.
فالأسد الذي هو أيضا شخصية في القصة، على الرغم من أنه غير ظاهر بشكل واضح، موصوف باقتدار. والأكثر دقة هو كيف يلعب الأسد بقوة في حياة جميع السوريين، سواء كانوا مقيدين به وبنظامه القمعي من أجل بقائهم على قيد الحياة، بغض النظر عن معاييرهم الأخلاقية، أو في قتال حتى الموت سعياً للإطاحة به.
كعمل فانتازي، تقدم رواية مكلوسكي بديلاً عن تخلي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن "الخط الأحمر" للولايات المتحدة، والذي كان يهدد باستخدام القوة العسكرية إذا استخدم الأسد أسلحة كيماوية.
على الرغم من أن المخابرات الأمريكية ومختلف المنظمات الدولية كانت قد حددت بالفعل أن الأسد استخدم الأسلحة الكيماوية في أواخر عام 2012 وأوائل عام 2013، إلا أن الأخبار والصور المروِّعة لهجوم بغاز السارين في آب/ أغسطس 2013 الذي أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص في الغوطة، إحدى ضواحي دمشق أوصلت الأمور إلى ذروتها.
وقد فتح التخلي عن الخط الأحمر للولايات المتحدة الباب أمام تدخُّل روسي وإيراني أكبر عزز موقف الأسد، وعزز إرادته، وجلب سنوات من المعاناة الأكبر.
أتذكر اجتماعاً مُحرِجاً وغير مريح إلى حدٍّ مَا في شهر آب/ أغسطس 2013 مع رئيس جهاز استخبارات في الشرق الأوسط كانت بلاده تستثمر في دعم دعوة أوباما (بشكل عميق وعلني وسرّي) لإزاحة الأسد.
وإلى حد هذه اللحظة، فما زلت مندهشاً من أن مرافقته الحمقى لم يقوموا بإلقائي من نافذة مكتبه بينما كنت أحاول أن أوضح كيف أن الولايات المتحدة، في الواقع، لم تتخلَّ عن الشعب السوري وحلفاء الولايات المتحدة.
بدلاً من ذلك، ظل مهذباً ومتحضراً بشكل مميز بينما كان يتنقل من الداخل بشكل واضح عندما قمت بنقل نقاط حديثي الرسمية حول تفكير الرئيس فيما يتعلق بالاعتماد على روسيا والوسائل الدبلوماسية كحل أقل عنفاً لمواجهة التهديد المتمثل في استمرار استخدام مثل هذه الأسلحة.
والواقع، كما عرفنا أنا وهو، أن الولايات المتحدة فتحت الباب أمام مشاركة روسية وإيرانية أكبر عززت بقاء الأسد، وعززت إرادته، وجلبت سنوات من المعاناة الأكبر. لم تعد التهديدات الأمريكية ذات مصداقية، بل في الواقع، أصبحت مساراً منقسماً إلى قسمين خلال الصراع. واعتمدت إستراتيجية الولايات المتحدة على الخطاب، والدعم المفتوح ولكن المحدود للمقاومة، والمساعدة السرية المخيبة بالتأكيد لمختلف الجماعات الثائرة.
لقد كان برنامجاً تم تمكينه بأموال من دول الخليج العربي والمساعدات اللوجستية لتركيا لتسليم الأسلحة والتدريب إلى معارضة خارجية مفككة، والتي من بينها اختارت الولايات المتحدة باستمرار العناصر الأقل جدارة أو فاعلية. وأصبحت روسيا وإيران قويتين لتوسيع وجودهما وتأثيرهما على حساب الولايات المتحدة، مما أدى إلى تغيير الديناميكيات الإقليمية بشكل قاطع وتشجيع الشركاء المستعدين في السابق لاتِّباع قيادة الولايات المتحدة في مقابل الأمن ليحددوا الآن أفضل السبل لحماية مصالحهم على نفقتهم وبأنفسهم.
في حين أنني ما زلت غير قادر على الجلوس لمتابعة حلقة من مسلسل شيّق، فقد تأثرت وامتنَنْتُ لماكلوسكي لقدرته على تصوير ما يكفي من الواقع.
بالنسبة لأولئك الذين يأملون في إلقاء نظرة أكثر واقعية على كيفية عمل جواسيس وكالة المخابرات المركزية، فلن يخيب أملهم. نعم، بصفتي مسؤولاً فنياً عملياتياً قضى سنوات في العمل لمديرية العمليات التابعة لوكالة المخابرات المركزية، وجدت عدداً من الحسابات المصطنعة أو غير الدقيقة أو غير الواقعية. ولكن بينما ما زلت غير قادر على الجلوس لمتابعة حلقة من مسلسل مثير أو أحد أفلام جيمس بوند، والتي هي مجرد متعة خالصة، فقد تأثرت وشعرت بالامتنان لقدرة مكلوسكي على دمج ما يكفي من الواقع.
وللإنصاف، يشرح المؤلف اهتمامه بحماية المصادر والأساليب بالإضافة إلى عملية مراجعة وكالة المخابرات المركزية، والتي تضمن أيضاً الكثير مع عدم الكشف عن الكثير من المعلومات.
لقد كان مكلوسكي بارعاً في رسم الشخصيات وخطّ سَيْر الأحداث، وظهرت براعته في كل الأدوار التي تلعب دور شخصياته فهم متحمسون ومندفعون، وفي بعض الحالات، مهووسون بمهمتهم ومهارتهم.
لكن مثل كل الأشرار، فإن بطل محطة دمشق، مثل مَن حوله، إنسان. والبشر حتى الضباط المدربين تدريباً عالياً والنشطين، يرتكبون أخطاء. إن القول المأثور لوكالة المخابرات المركزية (CIA) المتمثل في "عدم الوقوع في حب عميلك" هو في الغالب تذكير بالبقاء موضوعياً وحتى متشككاً في دوافع عميلك وتقاريره الاستخباراتية من أجل التقييم المستمر لمدى صدقها وإمكانية وصولها وتحررها من السيطرة العدائية أو النية الخادعة. ويجب إعادة تقييم الوكيل وإعادة تجنيده بشكل أساسي في كل اجتماع؛ لأن الحياة تتغير.
ويعمل مكلوسكي جيداً في جعل جوزيف جاسوساً واثقاً وخبيراً، وبالتالي، إنساناً ضعيفاً وحقيقياً يجب عليه في نهاية المطاف اتخاذ القرار الصحيح.
"محطة دمشق" هي صفحات مكتوبة بشكل جيد تتكون من عناصر الإثارة، وقصة حب، وحكاية تجسُّس، وخيال تاريخي فيما يتعلق بسورية والربيع العربي. وأي عنصر من هذه العناصر بمفرده يجعل الرواية تستحق القراءة؛ والجمع بين كل تلك الأجزاء يجعلها مُقنِعةً.