لم تكن زوجة لويس السادس عشر ماري أنطوانيت تعتقد أن عدم تأييد سياسات زوجها التقشّفية تجاه الشعب الفرنسي قد يضع النظام الملكي بعراقته وبنيته المتينة أمام خطر التغيير السياسي، ليس فقط على مستوى المملكة الفرنسية ذات النظام المونارشي المطلق، وإنما كذلك على مستوى أوروبا وأمريكا الشمالية بالمجمل.
كذلك الأمر، غاب عن ظنِّ رؤساء الدول العربية وعلى رأسهم بشار الأسد أن الشعوب العربية والشعب السوري بالتحديد قد ينتفض مطالباً بتغيير نظامه الأوليغارشي – الأوتقراطي، بالرغم من توافر كل المقوّمات في كلا النموذَجين، جراء الاستبداد السياسي واحتكار السلطة ومنع المشاركة السياسية وسياسات الاعتقال والعنف والتقشّف الاقتصادي وانعدام العدالة الاجتماعية وبناء نظام اجتماعي متباين تغيب عنه الطبقة التي غالباً ما تحافظ على توزان المجتمع "البرجوازية"، إلى أن أتت الثورة نتيجة طبيعية فرضتها حاجة الشعوب للتغيير، الحاجة التي لطالما يتحدّث عنها غوستوف لوبون.
تتخوّف الأنظمة العربية من انتصار الثورة السورية، فالأسباب والمبرّرات التي صنعت الأنظمة في المنطقة قد تنتهي في حال نجاح موجات التغيير وإحداث نظم سياسية ديمقراطية تترسّخ في شكل الدولة وإدارة الحكم.
لقد كانت الثورة الفرنسية نتاج موجات احتجاجات سابقة إبّان عصر التنوير Age of Enlightenment، وما نتج عنه من حراك سياسي وشعبي وفكري أدى لموجة كبيرة من الثورات وصدام مباشر مع سلطات ملكية مطلقة (مونارشية) وأخرى دينية (ثيوقراطية)، هذا ما عدا الثورات المحلية في المملكة المتحدة كالثورة المجيدة في أسكتلندا Glorious Revolution بين 1688-1689، والثورة الأمريكية American Revolution بين عامي 1765 و1783.
عززّت هذه الثورات حالة التمرّد لدى شعوب المنطقة الأوربية، ولا سيّما مع نضج الفكر والوعي السياسي لدى الفرد الأوروبي، مع تنامي مبدأ حق تقرير المصير self-determination لدى الشعوب الأوروبية، وانتشار المدرسة الوضعية Positivism التي أدت لتحييد الدين عن السياسة، بالتالي الحدّ من سلطة الكنيسة، كما حوّلت مفهوم المركزية Centralisation من رجل الدين إلى الإنسان، فظهرت المدرسة الإنسانية Humanism بمساهمة مباشرة من الثورة الفرنسية 1789، بعدما فرض المتمرّدون على لويس السادس عشر توقيع ما عُرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان The Universal Declaration of Human Rights.
وهذا كله لم يتشكّل في ليلة وضحاها، بل كان عملية تغيير تراكمية من الأسفل إلى الأعلى، مع مساهمة مباشرة من فلاسفة ومفكرين في عملية التوجيه، ولا سيّما المفكر جون لوك أبو الليبرالية، مستفيدين من تجارب سابقة بدأت من لحظة الإعلان عن أول وثيقة قانونية في التاريخ في المملكة المتحدة التي سُمّيت الوثيقة العظمى Magna Carta 1215، وصولاً إلى الثورة الفرنسية.
في المقارنة بين هذه السيرورة التاريخية في أوروبا وصولاً إلى الثورة الفرنسية -الحدث الفاصل- وبين الثورة السورية يُرى تشابه كبير، مع الأخذ بعين الاعتبار الدوافع التي شكّلت الثورتين، لقد غيّرت الثورة الفرنسية بالفعل وجه أوروبا، وجعلت هذه المنطقة الجغرافية في مقدمة الشعوب الريادية والمتحضرة.
وفي القياس بين الثورتين من حيث النهج السلوكي للمعارضين لأنظمة الحكم، يُرى أنّ المعارضة الفرنسية "المتمرّدون" لم يكونوا أفضل حالاً من المعارضين لنظام الأسد من حيث الفوضى والانتهاكات وغيرها، ويبدو أنّ هذه الحالة منطقية يفرضها واقع الانتقال من الحالة الرجعية إلى الحضارة، وقد تحدّث عنها ابن خلدون في دورة الحضارة الشهيرة له.
لذلك تحاول الأنظمة العربية أن تأخذ موقف الحياد من الثورة السورية في أحسن الأحوال؛ لأنّها تدرك أنّ مسار التغيير لن يطال سورية الدولة والمجتمع فقط وإنّما المنطقة العربية برمّتها "عدوى التغيير". في المقابل هناك أنظمة تعمل على مسار إصلاح جوهري وسريع، مستفيدةً من المدرسة البريطانية في إصلاح النظام السياسي Evolution، كما فعلت المغرب عندما أطلق الملك محمد السادس بن الحسن مساراً سياسياً ودستورياً لتوسيع صلاحيات السلطات التشريعية والقضائية، والانتقال من السلطة الشمولية المطلقة إلى الملكية البرلمانية، كذلك تدفع قطر بذات المسار، والمملكة الأردنية الهاشمية ولكن بخطوات بطيئة للغاية، بينما تركز المملكة العربية السعودية على لبرلة المجتمع بدلاً من السطلة، في محاولة لانتهاج مسار استثنائي خاص.
هذا كله لم تفرضه الثورة السورية وحدها بكلّ تأكيد، ولكن في حال حدوث أيّ تغيير سياسي في سورية فلا شكّ أنّ انعكاساته ستتأثّر به المنطقة العربية برمّتها في مشهدٍ يعيد للأذهان الثورة الفرنسية وما فرضته من تغيير.
تبقى عملية التغيير تحتاج إلى وقت كبير، ولكن في المحصّلة هذا المسار من الصعب أن تكون الأنظمة المستبدّة قادرة على مواجهته، وهذا لا يعني أنّها غير قادرة على تأخيره.