تختلف النظرة إلى تراث الأمة الثقافي والفكري والفقهي بشكل عامّ وللتراث الديني "الإسلامي" بشكل خاص، فإذا أردنا تقسيمه إلى تيارات متباينة وجدناه ينقسم إلى أربع نظرات في واقعنا:
أولاً: النظرة النكوصية: المتمثلة بمن يريد الرجوع للماضي بعُجَره وبُجَره فيتمسك بحرفية النصوص ويريد تطبيقها في زماننا بغض النظر عن التقلبات والتغيرات الهائلة الحاصلة في واقعنا وهو التيار "الحرفي الظاهري".
ثانياً: نظرة القطيعة عن تراث الأمة جملة وتفصيلاً ويبغي رجال هذا التيار الانفصال عن الجذور والأصول ليغدو الجيل الجديد في مهب الريح، وبمعنى آخر:
فلا مقدسات من نصوص ولا مقدسين من رجال ولو كانوا أنبياء ورسلاً ولا قُدُوات تُحتَذَى ولا أحكام تُستقَى للاقتصاد ولا السياسة ولا الحياة ولا عقائد يُتَمسك بها وبالتالي فلا أخلاق تضبط المجتمع وتوجه سلوك الفرد إلا ما يراه الفرد أو حتى المجتمع مِن هواه أنه يحقق "المصلحة" الموهومة والتي يظن أنها تجلب له السعادة وهو التيار المادي "العلماني" بالمجمل.
ثالثاً: النظرة الحداثية: ويحب أصحابها أن يسمَّونَ بـ "العقلانية" المتمثلة بمن "يزعم" أنه يريد التمسك بالنصوص من الكتاب وما يستسيغه "عقله" من السنة المطهرة ثم يضرب صفحاً عن فهم علماء الأمة لهذه النصوص، وبالتالي فلا إجماع يُعتَد به ولا قيمة لفهم علماء الأمة السابقين ولا يلتفت إلى جبال من العلم التي خلفها علماؤنا في الفقه والتفسير وأصول الفقه وغيرها مما تحسدنا عليه كل الأمم لغزارته وغناه مما حدا الاحتلال الفرنسي مثلاً أن يقتبس ٨٠٪ من الفقه المالكي ليضعه كقانون وضعي في مستعمراته كالجزائر وغيرها!!!
فينطلق في فهم النصوص من نظرة جزئية للنصوص بما يراه أنه يحقق المواءمة بين المقدس والمتغير حتى لو أدى به ناظره لنسف بعض المقدس لظنه أنه مخالف "للحضارة" أو لا يقبله "عقله" بل وصل ببعضهم أن يقول إن قوانين الأمم المتحدة قد تنسخ وتلغي النصوص المقدسة من الكتاب والسُّنة!!! باعتبارها تشبه "الإجماع" الذي يعتبر مصدراً أساسياً من أصول التشريع عند الأمة!!!! فألغى عقوبة القصاص واعتبر الحدود الشرعية في قسم الجنايات من العنف الذي تترقى وتترفع عنه البشرية!!!
ووصل ببعضهم أن يفسر بعض آيات القرآن الكريم بفهمه العقيم ليقول: إن من يعبد الله وحده كمن يعبد الحجارة والأصنام، وهم من السعداء في الجنة إذا كان مواطناً صالحاً محباً للخير لكل الناس!!!!!!!
وهؤلاء بالمجمل هم أكثر "الليبراليين الإسلاميين"!!!!
رابعاً: وهو "الأصالة والمعاصرة" وهو التيار العريض الغالب صاحب النظرة الوسطية الذي يتمسك بالنصوص المقدسة من الكتاب والسُّنة ويعتمد على إجماع الأمة من اتفاق مجتهدي كل عصر من العصور ويعتبره حجة شرعية قطعية ثم ينطلق إلى قواعد فهم علماء الأمة فيتكئ عليها في تنزيل النصوص المقدسة على الواقع المتغير وليس بالضرورة أن يصل إلى نفس المخرجات التي وصل إليه السابقون فهو ينظر إلى مصادر التشريع المرنة من المصالح المرسَلة وسد الذرائع وفتحها والأعراف على أنها أدوات طيِّعة للمواءمة بين ما هو مقدس وما يستجد من نوازل وأحداث.
فلا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان والأمكنة وحتى الأشخاص.
ويتمثل هذا التيار بالمجمعات الفقهية الشهيرة والمجلس الإسلامي السوري وغيره من التجمعات العلمائية الأخرى.
فإن كانت النكوصية "الحرفية" والقطيعية "العلمانية" اللتان هما على طرفي المسطرة لا يعدوان أن يشكلا تياراً نخبوياً صغيراً، وإن كان الليبراليون الإسلاميون تياراً محدوداً في الأمة، فإن الجسم الأكبر للأمة وهو بأغلبيته الساحقة هم التيار الوسطي الأصيل المعاصر الذي يسير على نهجه جمهور المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة مروراً بزماننا المعاصر والواقع الراهن فهو كشجرة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها.