نداء بوست -التحقيقات والمتابعة- موسكو
أتت زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد السريّة إلى روسيا لتكون مدخلاً لمرحلة قد تبدو جديدة، أراد لها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تكون مختلفة من البداية، عبر تصريحاته حول الوجود غير الشرعي للقوات الأجنبية في سورية.
وغنيٌّ عن القول أنّ سيد الكرملين لم يكن يقصد قوات بلاده ولا القوات الأمريكية التي تربط بلادها بروسيا مذكرة تفاهم جنيف الشهيرة، ولا المقاتلات الإسرائيلية التي تجوب الأجواء السورية بتفاهم معلن مع الروس.
ولم يبقَ إذاك سوى القوات الإيرانية التي تنتشر على الخريطة السورية في تنافس خفي مع روسيا.
يقول محمد سرميني رئيس ومؤسس مركز جسور للدراسات لـ"نداء بوست": إنّ صورة اللقاء ومراسمه تُخفي خلفها دلالات، ويضيف: "ليس من بين تلك الدلالات ما نجح الأسد في إيصاله لا لمؤيديه ولا لمعارضيه، بينما جاء هذا اللقاء وسط أجواء تغيرات حثيثة تجري في سورية والمنطقة، وهي بلا شك تحولات مرتبطة بالزيارة، أو تنعكس عليها بشكل أو بآخر".
ويرى سرميني أن هناك توافقات أمريكية – تركية على نحو متزايد فيما يتعلق بملف الشمال والشمال الشرقي من جهة، وهي توافقات تثير انزعاج الطرف الروسي، بما انعكس في التصعيد الأخير الذي شهدته مناطق المعارضة في الشمال، بما في ذلك قصف روسيا على عفرين للمرة الأولى منذ خروجها عن سيطرة "قسد".
ومن جهة أخرى تشهد المنطقة المحيطة بسورية حراكاً محموماً بين كل الفاعلين، إذ يبدو الجميع في مرحلة إعادة ترتيب للأوراق والأولويات، والاستعداد لتغيير خريطة التحالفات التي عرفتها المنطقة خلال السنوات السابقة".
قال بوتين: إنّ "القوات الأجنبية موجودة في مناطق معينة دون قرار من الأمم المتحدة ودون إذن من الدولة السورية، الأمر الذي يتعارض مع القانون الدولي".
أما ما رشح عن مصادر النظام الرسمية فقد وصف الاجتماع الثنائي بالمطوّل الذي انضم إليه لاحقاً وزير الخارجية فيصل المقداد ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وجرى فيه "بحث التعاون المشترك بين جيشَي البلدين".
كما تم التباحث بشأن الخطوات المتخذة على المسار السياسي، حيث أكد الجانبان على أهمية استكمال العمل على هذا المسار من أجل التوصل إلى توافقات بين الأطراف السورية ودون أي تدخل خارجي، على حد تعبير مصادر النظام.
تلك التصريحات التي تلت الاجتماع يقول سرميني إنها جاءت "مكررة ومستنسخة من أدبياتهما المعهودة خلال الفترات الماضية، إلا أن اللافت فيها كانت إشارة بوتين إلى نسبة سيطرة جيش النظام على الأرض السورية، والتي قال بأنها 90 بالمئة، رغم أنها في الواقع لا تتجاوز 64 بالمئة، وهو أمر لا يُعقل أن يكون الرئيس الروسي غير مدرك له، خاصة أن التصريحات لم تكن شفهية أمام الصحفيين، بل جاءت منقولة على لسان بوتين".
وعلى ما يبدو، حسب سرميني، إنّ تلك النسبة "تعكس عملياً مناطق سيطرة النظام بالإضافة إلى مناطق شرق الفرات التي تُسيطر عليها قوات قسد برعاية أمريكية، أي أن بوتين يوجّه رسالة إلى الولايات المتحدة، ومنها إلى تركيا، بأن هذه الأرض هي من حصّة روسيا، وأن أي توافقات أمريكية بخصوصها مع أي طرف آخر غير روسيا، ستكون توافقات مرفوضة من قبل موسكو".
وتعمل روسيا بشكل دؤوب على التوصل إلى توافق بين النظام وقيادة "الإدارة الذاتية"، وقد قامت مؤخراً بتكليف مكتب الأمن الوطني بإدارة ملف الحوار مع الإدارة، في محاولة لمنع تدخلات الأجهزة الأمنية الأخرى، وربما يكون استدعاء الأسد مرتبطاً بالضغط عليه للالتزام بهذه التوافقات، بالشكل الذي ينقل "قسد" إلى مظلة جيش النظام، وهو ما يُحقق عندها نسبة السيطرة التي ذكرها بوتين، وفقاً لسرميني.
كما تقوم روسيا بالتحضير لجملة من التغييرات المفصلية في بنية النظام السوري، بما يشمل الأقسام واللجان التنفيذية التابعة لمكتب رئيس الوزراء وللوزارات السيادية في الحكومة، بالإضافة إلى تغييرات في آلية التعامل مع المعارضة الداخلية، وحتى مع جزء من المعارضة الخارجية، من تلك المحسوبة على روسيا أو قريبة منها.
هذه الترتيبات تواجه رفضاً إيرانياً، ورفضاً من النظام بطبيعة الحال، ولذا فإنّ روسيا تتوقع أن يمارس النظام مقاومة تجاهها بكل الطرق الممكنة له.
أما الأسد فقد اعتبر أن "الجيشين الروسي والسوري ساهما في حماية أبرياء حول العالم من الإرهاب"، ويلفت الانتباه مديح بوتين له لكونه حسب الأخير، قد "فتح حواراً مع خصومه السياسيين"، مشيراً إلى نجاح الأسد في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً بنسبة "تجاوزت الـ 95 بالمئة"، مضيفاً أن تلك النتيجة "تشير إلى أن الشعب يثق بك ورغم صعوبات السنوات الماضية والمآسي التي شهدتها تلك السنوات، فإن الناس لا تزال تربط عمليتي التعافي والعودة إلى الحياة الطبيعية بك، وأعلم أنك تعمل الكثير من أجل هذا، بما في ذلك إجراء حوار مع خصومك السياسيين آمل أن تتواصل هذه العملية".
جدير بالذكر أن روسيا كانت قد تدخلت عسكرياً في سورية عام 2015 دعماً للنظام، وحاربت قوات المعارضة السورية بجميع أسلحتها الفتاكة، وتمكنت من الاستيلاء على مساحات واسعة ومهّدت الطريق لقوات الأسد لاستعادة السيطرة عليها.
غير أنّ سرميني يرى أن روسيا قد تكون وصلت إلى قناعة بأن النظام نفسه قد أصبح عقبة أمام تحقيق التصورات الروسية للحل، ولذا فإنّ استدعاء الأسد إلى موسكو للمرة الثانية يهدف إلى ضبط سلوك النظام نفسه، والضغط عليه من أجل التوقّف عن محاولة استغلال الهوامش بين الدورين الروسي والإيراني، أو حتى محاولة البحث عن هوامشه الخاصة من خلال التواصل مع واشنطن أو غيرها.
وهذا النوع من الضبط الروسي لحليف الضرورة في دمشق ملحٌّ للغاية في الوقت الذي تقوم موسكو بمساعٍ مع الفاعلين المحليين والخارجيين من أجل التوصل إلى توافقات تكتيكية أو إستراتيجية.