حين خرج الشباب السوري الثائر إلى الشارع، رفعوا بدايةً شعاراتٍ إصلاحيةً مُطالِبةً بالحرية والكرامة وإلغاء هيمنة حزب البعث والأجهزة الأمنية على مفاصل الدولة والمجتمع، في ظل غياب ملحوظ لدور القوى السياسية التقليدية التي كانت مُنهَكة نتيجة الضربات الأمنية المُوجِعة والمتواصلة التي أفقدتها القدرةَ على التأثير على الشارع السوري الثوري، رغم وجود بعض الهياكل المنظمة مثل إعلان دمشق وبعض التنظيمات الأخرى، إلا أنها لم تكن قادرة على إدارة دفَّة المظاهرات التي كانت تتوسع على الرقعة الجغرافية السورية أسبوعاً بعد آخر، لا بل كانت متأخرة ومترددة عن اللحاق بالشارع الثوري، ونتيجة لذلك فقد تأسست التنسيقيات الشبابية في كل مدينة وحي وقرية لإدارة وتنظيم المظاهرات والتنسيق فيما بينها، وعلى إثر هذا التمدد تم رفع سقف المطالب حتى وصلت إلى رفع شعار إسقاط النظام، ترافق ذلك برد فعل أقوى وأكثر قساوة من قِبل النظام في ممارسة القمع العاري واستخدام الرصاص الحي بدم بارد على المتظاهرين، وعلى أثرها ومع استمرارية الثورة وشموليتها، تحركت المجموعات السياسية لتشكيل إطار سياسي جامع يمثل إرادة الثورة بخطاب سياسي واضح المعالم منسجِم مع مطالب الجماهير، وهكذا تُوِّجت الحواراتُ بتأسيس المجلس الوطني السوري في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 برئاسة الدكتور برهان غليون والتي لخصت مطالب الشعب السوري في بيانها الختامي (تعبئة جميع فئات الشعب السوري لإسقاط النظام بأركانه ورموزه وبناء نظام ديمقراطي تعددي). إلا أن المجلس لم يتمكن من استقطاب الشارع بشكل مقبول، فكان تأسيس الائتلاف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 في الدوحة أكثر شمولية وتنوعاً، ونال الاعتراف الدولي والعربي والشعبي كممثِّل أساسيّ للثورة والمعارضة السورية ويهدف إلى:
(- إسقاط نظام بشار الأسد ورموزه ودعاماته.
– تفكيك الأجهزة الأمنية.
– رفض الحوار مع حكومة الأسد ومساءلة المسؤولين عن قتل السوريين.)
كما أن مؤتمرَيْ "الرياض1"، 2015 و"الرياض2"، 2017 قد أكدا على نفس النقاط الأساسية السابقة، وتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات والتي جاءت أكثر شمولية وتنوعاً من الائتلاف بحيث انضم إليها هيئة التنسيق ومِنَصّة القاهرة وموسكو وبما ينسجم مع القرار الدولي 2254 لعام 2015. ومع ذلك فقد أكد بيان "الرياض2" على ضرورة (مغادرة بشار الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد عند بَدْء المرحلة الانتقالية). وعلى الرغم من تحفُّظ منصة موسكو على هذه الفقرة فقد أقرتها كموقف سياسي لا تراجُع عنه. علماً أن المؤتمر أكد على الالتزام ببيان جنيف والقرارات الدولية ذات الصلة 2118، 2254.
من هنا يظهر ازدواجية الخطاب السياسي للمعارضة أو ديماغوغيته إن صح التعبير؛ لأن بيان جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012 كان واضحاً حيث طالبت بالتشاركية مع النظام من خلال هيئة حكم انتقالية كامل الصلاحيات التنفيذية بين الطرفين حيث نصت على (إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تهيئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل صلاحيات الهيئة التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكَّل على أساس الموافقة المتبادلة).
لكن التخبط الذي حصل لدى المعارضة هو المؤتمر الصحافي لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حين أعلنت بأن هيئة الحكم الانتقالية بكامل الصلاحيات تعني أنه لا مكان لبشار الأسد فيها، بينما قال لافروف وزير خارجية روسيا بأن البيان لا يشير إلى رحيل بشار الأسد مطلقاً، ومع الأسف لم تكن هيلاري كلينتون صادقة مع نفسها ومع المعارضة، وتم طرح الموضوع في الجلسة لكن روسيا لم توافق، بينما أدرك المبعوث الدولي المرحوم كوفي عنان الفخّ الذي وقع فيه الأمريكان، ووجد أن بيان "جنيف1" لا يحرز تقدُّماً في عملية السلام؛ لذلك استقال من مهمته بعد شهر من البيان، وأسند المهمة للجزائري الأخضر الإبراهيمي، الذي بذل جهوداً كبيرة تُوِّجت بإصدار قرار واضح من مجلس الأمن تحت رقم 2118 في أيلول/ سبتمبر 2013 لكن القرار لم يخرج من نص بيان جنيف سوى باستبدال العبارات. حيث يقول في البند 16: (يؤيد تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران/ يونيو 2012 الذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسية بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة والمجموعات الأخرى، وتشكل على أساس التوافق). وعلى الرغم من أن نقاشاً حامياً جرى في اجتماع الائتلاف والذي أدى إلى انسحاب 44 عضواً من الجلسة إلا أنها أُقرت من قِبل الائتلاف، وأصبح مرجعاً أساسياً يستند إليه حتى اليوم. وعلى أساسها عقد مؤتمر "جنيف2" بين النظام والمعارضة في كانون الثاني 2014 تحت إشراف الأمين العامّ للأمم المتحدة بان كى مون وحضور عدد كبير من الدول، لكن المؤتمر لم يحرز أي تقدُّم سوى تبادُل الاتهامات، وفي الجلسة الثانية في شباط/ فبراير 2014 فشل المؤتمر مرة ثانية في إحراز أي اختراق، واستقال الإبراهيمي. وتم تعيين دي مستورا الذي وجد أنه بحاجة إلى قرار دولي جديد أكثر وضوحاً وفعلاً صدر القرار الدولي 2254 في كانون الأول/ ديسمبر 2015 واستبدل صيغة هيئة حكم انتقالية بكامل الصلاحيات إلى (حكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية….. إلخ) في الفقرة الرابعة منه، وكنت حينها عضواً في الوفد المفاوض، وجرت نقاشات قانونية قوية بين وفدنا ووفد الأمم المتحدة برئاسة دي مستورا، وهل تعني هذه العبارة حكومةً أم حكماً أم حوكمة، وما مكان بشار الأسد فيها؟ وكان الجواب واضحاً لا يوجد إشارة لرحيل بشار الأسد في نص القرار، وفيما بعدُ تم التخلي عن هذا البند نهائياً، وتم التركيز على السلة الدستورية حصراً مع تجاهل تامّ لبقية الموادّ، وهكذا أصبحنا اليوم أمام لجنة لصياغة دستور جديد أو إدخال تعديلات على دستور النظام ومن ثَمّ الانتخابات بعد توفُّر بيئة آمِنة لذلك.
في المحصِّلة نلاحظ أن كل القرارات الدولية تؤكد على المشاركة بين المعارضة والنظام في حكومة وحدة وطنية لا أكثر، ومع ذلك يرفض النظام ذلك، ونحن ما زال خطابنا السياسي يقول بأننا قوى ثورية ونطالب بإسقاط النظام، وبنفس الوقت نُبدي التزامنا بالقرارات، فأي تخبُّط سياسي نمارسه في ازدواجيّة الخطاب؟!