إن دولة القانون والمؤسسات هي الثمرة الأساسية للعَقْد الاجتماعي وإقرار دولة المواطنة، لا شك أن هناك أموراً لها صفة الأسبقية عند الاتفاق على العَقْد الاجتماعي مثل الاتفاق على حدود الدولة واسمها وألوان علمها وطبيعة نظام الحكم..
وللأسف فإن القضية السورية تشهد نزاعاً في كل قضية منها بل وتنافراً بين أهل الحل والعقد, رغم أسبقية تلك القضايا والتي لم تحسم وربما تتطلب وقتاً طويلاً, إلا أن دولة القانون والمؤسسات أمر له الأولوية ومسار موازٍ لا يتعارض أو يتقاطع مع غيره من المسارات، فيمكن لدولة فاشلة أراد أهلها أن تتحول إلى دولة راشدة أن تبدأ بتطبيق معايير الدولة القانونية ومأسسة هياكلها فوراً بينما تتلمس طريقها بالحوار والنقاش في حسم القضايا الأخرى الجوهرية من أرض وعلم وشعب ولغة ودين وأخيراً.. دستور.
والدول التي تريد السير بسرعة تضع العربة خلف الحصان، فتصدر ورقة إعلان مبادئ أو مسودة إعلان دستوري تقتصر على صيانة الحقوق العامة والمحافظة على الحريات والتعددية وحماية مكونات المجتمع.. أي إعلان يعتبر مسودة لما قبل العقد الاجتماعي بين هذه المكونات، لكن في الحالة السورية الفريدة بدأت المعارضة والنظام برعاية أممية فيما يعتبره بعض السوريين أنه تمييع القضية وتضيع للوقت بمفاوضات لإقرار دستور جديد ربما تحتاج في كل بند تبحثه إلى تشكيل لجنة جديدة!.. إن حالة التفاوض في الحالة السورية هي أشبه بحالة هدنة (مؤقتة) غير معلنة بين أغلب الأطراف الدولية الفاعلة بواجهة من النظام والمعارضة إضافة إلى ما تم التوافق على أنه مجتمع مدني!!
وسأتحدث بكل صراحة وشفافية لأن الموضوع موضوع وطن وشعب. للأسف دولة فاشلة منهارة اعتبرها العالم أجمع دولة منكوبة بحقوق الإنسان يضرب شعبها بالبراميل ويباد أناسها بالأسلحة الكيميائية وتدفن الميليشيات الطائفية مواطنيها وهم أحياء لديها مجتمع مدني وبرنامج لليوم التالي بل ولديها ممثلون عن هذا المجتمع؟!.
أما المأساة التالية فإن تلك الدولة ليس لها دستور متفق عليه رغم أنها تملك مجتمعاً مدنياً وأنها اتفقت على لجنة ستقر دستوراً جديداً لشبه بلد، أهله ليسوا متفقين على أي شيء.
لكن بعيداً عن النقد والانتقاد والذي يمكن الرد فيه طويلاً أو المماحكة بالقرارات الدولية فكيف لنا الانتقال من مزرعة الرعايا لدولة المواطنة؟ كيف لنا أن ننتقل من قمقم السجن إلى فضاء الحرية الرحب؟.
مرة أخرى وعلى الطريقة السورية التي اتفق فيها السوريون على ألا يتفقوا، دب الخلاف، عدالة تصالحية أم عدالة توافقية؟ عدالة انتقالية أم العدالة الكاملة؟!..عدالة أساسية أم العدالة القضائية؟.. ما نوع العدالة المنشودة؟ وهل جميع هذه العدالات تعني معنًى واحداً؟ أم لا تهم كل هذه التسميات طالما أن الهدف هو العدالة وتطبيق مبدأ المساءلة القضائية الكاملة. وهل يمكن أن يتفق السوريون؟ وهل الحل في سورية لا يمر إلا عبر الاعتراف بأن الجميع مخطئون وأنه لا غالب ولا مغلوب؟
أسئلة كثيرة تمر على بال السوريين ويضيع أغلبهم وسط المصطلحات التي تشعرهم أن الحل بعيد خاصة وسط الانقسامات التي يعيشها السوريون اليوم.
إن العدالة هي جوهر لا يتجزأ، ومفهومها واحد موحَّد مثل اللغة العالمية التي يتحدثها ويفهمها الجميع.. هذا الجميع الذي اتفق أن يسميها عدالة انتقالية لأنها تفصل بين مرحلتين أو طورين أو نظامين أو أي اثنين أنت تضعهما شرط أن يكون الثاني هو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات.. ومن أجل مقاربة الموضوع نذكر بعضنا بأمثلة من الواقع لا تشترط الانتقال من دولة الديكتاتورية إلى دولة الديمقراطية فقط بل هناك دول مثل المغرب تم إطلاق مسيرة العدالة الانتقالية والتي أسموها بالمغرب (العدالة والإنصاف) وكان من نتيجتها أُخرج عبد الرحمن اليوسفي من السجن -وهو من خلفية اشتراكية- وتم تكليفه برئاسة الحكومة وتشكيل لجنة استمعت وسجلت كل شكاوى الناس وادعاءاتهم.. أما العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا فكانت تهدف للانتقال من نظام الفصل العنصري (Apartheid) إلى نظام ديمقراطي ليبرالي أتى بنيلسون مانديلا من السجن إلى قصر الرئاسة بعد اعتقال انفرادي دام 27 عاماً.
إذا ما يلزم سورية حقوقياً إعلانُ ما قبل دستوري يُقِرّ مبدأ العدالة الانتقالية، والتي سيكون لها دور فاعل في المصالحة الوطنية، بل ستسهم في دعم التقدم على المسارات الأخرى غير المحسومة والتي أشرنا إليها بالبداية عبر تخفيف الاحتقان بين الأطراف وإشاعة الطمأنينة في المجتمع.
لكن كيف نعيد مَن مات إلى الحياة ؟ وكيف نرد الضحايا إلى أهلهم؟ وكيف لأولياء الدم أن يطالبوا بالقصاص ممن قتلهم في ظل الحديث عن المصالحة الوطنية والعفو عما مضى؟ كيف لنا أن نمضي قُدُماً وبذات الوقت ننبش القبور!!
إن العدالة الانتقالية تميز بين الحقوق الفردية وحق المجتمع أو الحق العامّ، تفصل بين الجرائم التي قامت بها الدولة (النظام) وبين الجرائم التي قام بها أفراد هذا النظام أكانت هذه الجرائم قتلاً أو خطفاً أو تعذيباً، وسواء كانت الجرائم منهجية أو فردية.. إن أغلب الضحايا ممن قُتلوا أو اختفوا قسرياً وهم يشكلون عادة الغالبية العظمى من الضحايا في الدولة المنتقلة من الشمولية إلى الحرية عبر ثورة، ويؤسفني القول: إن كثيراً من القضايا يبقى فاعلها مجهولاً أو ربما قتل أو مات. وهنا يأتي الشِّقّ المعنوي بإعادة الاعتبار إلى هؤلاء وتكريم ذِكْراهم والبحث عن آليات معاوضة كي تلتئم الجراح.
إن نظام العدالة الانتقالية بشرح بسيط يكون عَبْر تحمل نظام الحكم الجديد (المتفَق عليه) لكل تَبِعَات الحق العامّ وحق المجتمع فيصبح هو الخصم الذي يجب أن يرد الحقوق لأهلها من تعويض وتكريم وفضّ النزاعات.. على أن تبقى الحقوق الفردية معلقة بأصحاب من اغتصبها طالما كانوا معروفين وطالما أن اللجان أو المحاكم المنبثقة عن نظام العدالة الانتقالية قد أقرت مرتكبيها.
إن الدولة الجديدة هي التي ستباشر بإعادة الإعمار وترميم البيوت والمَرافق وإعادة الممتلكات لأصحابها وتعويض المتضررين أو ذويهم القانونيين منعاً لنشوب أي اقتتال داخلي أو حرب أهلية كما أنها يجب أن تقدم مجرمي الحرب إلى العدالة منعاً لأي عملية ثأر أو اقتصاص خارج القانون.
ومن الطبيعي أن تكون هناك تفصيلات أخرى شائكة ومعقدة للفصل بين الانتهاكات التي تمت بين فصائل عسكرية أو تلك التي ارتكبها الجيش البائد أثناء الاقتتال حيث تنطبق عليها المعاهدات الدولية الناظمة والاتفاقيات الإقليمية مثل معاهدات "جنيف" الأربع أثناء الحرب والسلم الخاصة والناظمة للاقتتال بين مكونات أي مجتمع والأسرى.. والفصل بين الانتهاكات التي تمت بحق المدنيين الأبرياء حيث تشكل الشغل الأهم لعمل العدالة الانتقالية.
ولا ننسَ المسؤولية الجنائية والأخلاقية للجرائم التي تمت على يد الدول المنغمسة في بحيرة الدم السورية سواء بشكل مباشر عَبْر طيرانها وأساطيلها مثل روسيا أو عَبْر ميليشياتها وعصاباتها مثل إيران وحزب الله.
أخيراً يقفز لأذهاننا سؤال المليون حول نزاهة التحقيقات وآلياتها ويتبادر السؤال عن ميكانيزمات هذه العدالة ومَن يشرف عليها أو ما هي ضمانات تطبيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب؟
لا شك أن المنظمات الدولية الرسمية مثل الأمم المتحدة منظمات فاشلة أبعد ما تكون عن لعب هذا الدور بسبب تسييس رؤاها وبسبب العطالة في إنتاج ما هو مفيد في ظل صراع الإرادة والمصالح للدول المؤسسة لها والمهيمنة عليها, ولذلك يبقى دور هذه المنظمات دوراً شرفياً أدبياً يتعلق بالإشراف وإصدار المراسيم وتحويل قرارات لجان العدالة الإنسانية أو منظمة عدالة واحدة وغيرها من المنظمات ذات المسموعية الأخلاقية في هذا المجال.. هذه المنظمات تقوم بالعمل مع الحقوقيين السوريين المستقلين من خارج صندوق المعارضة والنظام بشقيه السابق والوليد. ومن نافلة القول أن نذكر أن سورية تضم العديد من الخبرات الدولية والنشطاء الأكفاء المبتعدين أو المبعدين عن أتون الصراع الحالي.
ولا بد لنا بالنهاية أن نذكر أن مفهوم الدولة الحديثة انتقل من دولة الحدود إلى دولة الحقوق.. ولا شك أن الطريق طويل وشائك لكن لا بد من العمل من البارحة وفوراً بدلاً من التباكي على اللبن المسكوب.
Author
-
كاتبة وصحافية سورية وحاصلة على ماجستير قانون دولي من جامعة نورثامتون البريطانية