الصمت.. الصدمة.. الذهول..
بهذه الكلمات الثلاث يمكنني وصف الحالة التي كانت تسيطر على المئات من الأميركيين في شوارع العاصمة واشنطن ظهر الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر للعام 2001 -وكنت واحدة منهم- بعد أن توقفت الحياة تماماً، وطُلب من كافة الموظفين والعاملين في العاصمة في القطاعيْنِ الحكومي والخاص مغادرة أماكن عملهم والتوجّه سيراً على الأقدام إلى بيوتهم على ألَّا يغادروها حتى إشعار آخر.
كنتُ يومها في قاعة المكتبة العامة بمبنى وزارة الخارجية الأميركية أدير حلقة دراسية للدبلوماسيين المتوجهين لتسلُّم مهامّهم في دول من الشرق الأوسط حين دخل المكتبةَ أحدُ رجالِ الأمن وطلب منا مغادرة المبنى فوراً!
خلال سَيْرنا الوئيد باتجاه بَهْو الوزارة للمغادرة، كنا نتابع بذهول صور الكارثة التي كانت تُنقل في بث مباشر على شاشات التلفزة في أميركا والعالم، وكان مذيع قناة "سي إن إن" الشهير،لاري كينغ، يغصّ بدمعه حال انهيار البرج التجاري الأول في نيويورك على رؤوس آلاف من الموظفين ممن كانوا قد باشروا عملهم في ذلك الصباح الكئيب، بينما كان البرج التوأم الآخر ينوء بنيران الطائرة التي اخترقته قُبيل انهياره.
أيّد الأميركيون بأغلبيتهم إثر هجمات أيلول الإرهابية التي استهدفت واشنطن ونيويورك وبنسلفانيا، والتي خطّط لها ونفّذها تنظيم "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن الذي كان يعيش في أفغانستان تحت حماية حركة طالبان- أيّدوا استخدام حكومتهم للقوة العسكرية ردّاً على الاعتداء المباشر على أرضهم. وطالب الشعبُ الأميركيُّ بتوجيه ضربات مباشِرة تستهدف مواقع تواجُد القاعدة التي تَدرّب فيها وشُحن عقائديّاً أولئك الإرهابيون الذين شنوا العمليات على المدنيين في الولايات المتحدة، وقد انتظموا مسبقاً ضِمن خلايا عُنْفيَّة متطرفة تتخذ من الدين الإسلامي غطاء لمآربهم السياسية، والإسلام الحنيف منهم بَرَاء.
وبالفعل، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لعام 2001 باشرت واشنطن حملتها العسكرية الجوية بضربات مباشِرة على قوات تابعة لحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" ومخابئ تلك الجماعات في مغاور جبال "تورا بورا" الأفغانية (الاسم يعني الغبار الأسود بالعربية)، تلك الغارات الجوية التي سُرْعان ما تحوَّلت إلى حرب شاملة دامت 20 عاماً وانتهت مع نهاية شهر آب/ أغسطس من العام 2021 إثر إعلان واشنطن سحب قواتها كاملةً من الأراضي الأفغانية بعد أن "قضت على زعيم تنظيم القاعدة ولاحقت الفلول منه في أنحاء أفغانستان"، كما أشار الرئيس بايدن تفنيداً لدواعي انسحاب الولايات المتحدة الكامل مع انتهاء مهامّها القتالية هناك.
هذا كان على المستوى العسكري لمكافحة الإرهاب وحركاته العنيفة التي جاءت كاشتقاقات فُطْريّة سامّة لتنظيم "القاعدة" المنهار، وقد ظهرت آخِر نسخة له في العراق وسورية مع ظهور منظمة "داعش" وإعلان زعيمِها، أبي بكر البغدادي، تأسيسَ دولة الخلافة من منبر جامع الموصل في العام 2014.
الحرب على "داعش" لم تزل قائمةً حتى تاريخ كتابة هذه السطور، فالدماء لم تجفَّ بعدُ من هجماتها الأخيرة في 27 آب/ أغسطس الفائت حين نفّذ عناصرها تفجيرين انتحارييْنِ استهدفا مطار كابول أثناء الانسحاب الأميركي من البلاد.
أما على المستوى المدني، ومنعاً لتكرار أحداث أيلول في أميركا والعالم، فقد بدا الرأي العامّ الأميركي في البدايات مؤيداً للتضحية بهامش من الحريات المدنية لحساب تحقيق الأمن الشخصي والمجتمعي الذي اهتزّ بقوة؛ إلا أن الشعب الأميركي رفض بشدة ممارسات أمنية تتعلق بمراقبة البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية الخاصة، وكذا ملاحقة المهاجرين الشرعيين لمجرد أنهم قدموا من دول غير صديقة، ما يفسح الطريق لاستدعاء مشاهد مخزية في الذاكرة الجَمْعية الأميركية حين احتُجز آلاف المواطنين الأميركيين من أصل ياباني خلال الحرب العالمية الثانية في معسكرات اعتقال خاصة؛ حادثٌ جلل يعتبره الأميركيون وصمة عار في سجل بلادهم الإنساني يُضاف إلى شناعة إلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتَيْ "هيروشيما" و"ناكازاكي" في عام 1945.
لقد اتضح جلياً إثر هجمات 11 أيلول أن التوازن المطلوب بين صون الحريات المدنية وحماية البلاد من الإرهاب قد تغيّرت معاييره إلى غير رجعة. وإثر تخوفات كبيرة من ردود أفعال محتملة آنذاك ضد المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، قام الرئيس الأميركي، جورج دابليو بوش، بعد ستة أيام فقط من الهجمات، بالتوجّه إلى المركز الإسلامي الكبير في العاصمة واشنطن وألقى كلمة قال فيها: إن "الإسلام هو السلام".
إلا أن معظم الأميركيين يرون في الإجراءات الأمنية التي اتخذتها بلادهم في العَقْدين الأخيرين، والتي ذهبت بعيداً في تقييد الحريات المدنية، لم تكن لتقطع شوطاً موازياً لحماية البلاد بقدر ما ذهبت بعيداً في قَصْقَصة أجنحة الحريات العامة.
أعادت أحداث أيلول تشكيل الطريقة التي يفكّر بها الأميركيون في قضايا الحرب والسلام، وكذا قضايا العدالة الإنسانية والعقاب، وفي الوقت عينه شغلت حيزاً كبيراً من قلقهم على أمنهم وسلامة منظومتهم القيمية والمجتمعية حيث الحريات جوهرة التاج منها. وبقيت العلاقة بين تحقيق الأمن العامّ وحماية الحريات الشخصية موضع جدل كبير بين الحكومات المتعاقبة والشعب الأميركي، جدل لن ينتهي ما دام الإرهاب قادراً على تغيير أشكاله وأدواته ليتوجّه بغاية عنفه نحو تحطيم القيم المعاصرة التي تقوم عليها مجتمعات الغرب، تلك القِيَم الراسخة التي تدعو -أولَ ما تدعو- إلى نبذ العنف وتجريم كل مَن يعتدي على مظاهر الحياة المدنية والمدنيين.
هكذا تصل الذكرى السنوية العشرون لأحداث أيلول ثقيلة على صدور الأميركيين، وقد ترافقت مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما صاحبه من فوضَى عارمةٍ وأحداثٍ مؤلمةٍ زعزعت صورُها أركانَ الضمير الأميركي، وأضافت شعوراً مضاعَفاً بالعجز أمام معضلة الإرهاب الكبرى التي انفجرت في العالم وغيّرت نمط حياة الكوكب بشكل جذري تماماً كما فعل فيروس "كورونا" الداهم.