بعد أن سمعت خبر وفاة جدتي ركبتُ سيارتي على الفور لأقطع مسافة 400 كم ليلاً لأصل منزلها قاصداً وداعها، وكنت قد قدّرت أنني أستطيع إنهاء كل ذلك في العطلة الأسبوعية، ولكن سيارتي انقلبت على أحد الطرق مما جعلني أكمل الطريق مشياً لما يزيد عن عشرة كيلومترات… وبالنتيجة تأخرت عن العمل ولم أستطع إنجاز المهمة.
لم يكن هذا نصاً مأخوذاً من فيلم (Big Fat Lair) الذي يحكي قصة يافع طالما قدَّم أعذاراً كاذبة لتبرير التأخر عن تنفيذ مهماته المدرسية، ولكن كان جواباً على سؤال أحد المديرين عن سبب تأخُّر المهمة الموكلة لأحد الموظفين.
في الحقيقة يلجأ كثير من الموظفين للكذب لأسباب مختلفة في محاكاة لسلوك بعض الأطفال في المدارس، ولكن الفرق بينهما أن المدرس يستطيع مواجهة الطلاب بشكل مباشر بأن ما يفعلونه خاطئ وبأن عليهم العودة لما تعلموه من سلوك صالح يقضي بالحفاظ على قول الصدق والاعتراف بالحقيقة مهما كانت مُرّة، أما في حالة المدير فمن الصعب أن يقول للموظف إنه يكذب فالموقف سيسبب له إحراجاً كبيراً وسط زملاء العمل أو حتى سيمثل خدشاً للثقة سُرْعان ما يتسع مع تكرار الكذب.
إذا كنا مديرين أو زملاء عمل لآخرين يكذبون فعلينا أن نتحلى بالصبر وحسن النية، فالموظفون الكاذبون غالباً ما يكذبون ليبالغوا من حجم أعمالهم ويثبتوا قُدُراتهم فتبقى الأضواء مسلطة نحوهم على مبدأ "أنا أكذب إذاً أنا موجود" وهذا النوع من الكذب قد يكون علاجه في تشجيع الأعمال الحقيقية للموظف والتي تمثل إنجازات يمكن الافتخار بها، هذا يعني لفت نظر هذا النوع من الموظفين إلى أن إنجازاتهم الطبيعية يمكن الاحتفاء بها والتصفيق لها.
كما أن الكذب في أماكن العمل قد يكون في سبيل تجنُّب خلافات مع آخرين أو إغضاب المديرين وزملاء العمل حيث يضطر الموظف للكذب لتجنب إغضاب الآخر، في الحقيقة إن مزيداً من المصداقية والثقة وتوفير مساحة عمل آمنة سيشجع الموظفين على قول الحقيقة ولا يُعتقد أن بيئة العمل الآمنة سيشيع فيها هذا النوع من الكذب، لذا فإن كل ما على المدير وزملاء العمل فِعْله هو توفير الأمان للموظف الكاذب لقول الحقيقة وردّات الفعل غير المدروسة.
كما يسود نوع من الكذب يتعلق برغبة الموظفين في تحقيق مآرب خاصة كالسعي للحصول على مكافأة أو مديح وهذا النوع من الكاذبين من الصعب التعامل معه؛ كونه قد يكون قادراً على إيذاء الآخرين لتحقيق أهدافه، وهو يتمتع بذكاء بحيث يحبك الكذبة، وربما من الأفضل مصارحة هؤلاء بما يفعلون على شكل جلسات منفردة من قِبل مديرهم أو أحد كبار الموظفين بحيث يتم لفت نظرهم لعواقب هذا النوع من الكذب.
أعتقد أن النوع الأخطر من الكذب هو أن يكذب المدير على موظفيه، فبعض المديرين يرغبون بتعميم خطاب معين يسود بين الموظفين لصورة المؤسسة وبالفعل يتبناه الجميع، بسبب قدرة المدير الأدبية والقانونية على الإقناع، من الجيد بالتأكيد أن يركز المديرون على النقاط الإيجابية لتحفيز الموظفين وأن ينشروا أفضل ما لديهم في تقارير الأعمال الدورية ولكن عليهم أن يكونوا صريحين في موقف الشركة مع موظفيهم، أعرف مؤسسة انهارت بين يوم وليلة حرفياً رغم تعداد موظفيها الضخم والسمعة والنفوذ الكبيرين اللذين كان يظن موظفوها أنها تتمتع بهما، ولكن رؤساء هذه المؤسسة كانوا قد روّجوا طِيلة سنوات أنهم في القمة ليستيقظوا عند أول مطبّ فيجدوا أنفسهم في القاع.
"اللف والدوران" والمجاملة وقول الأشياء بطريقة إيجابية لا تعني الكذب وهي أشياء قد تكون محمودة في بيئة الأعمال، التشجيع والتحفيز أمر مهم وأن يكون هناك بيئة آمِنة يعمل فيها الموظف بحيث يعرف أن ما يقوله بصدق سينعكس عليه بشكل إيجابي إضافة إلى المصارحة الدائمة بين الموظف والمدير بشكل رئيسي والتقدير الجيد للأمور كلها ستكون أشياء جيدة في بيئة الأعمال.
تُدخل بعض الشركات مراجعين خارجيين في مجال المحاسبة والبيانات لتدقيق أعمالها بحيادية تامة، ويمكن كذلك أن يكون للمؤسسات مراقبون خارجيون يُقيّمون أعمالها في مجال الإدارة على مستوى الأهداف والإستراتيجية التي تتبناها هذا سيساعد كثيراً في وضع المؤسسة على السكة وإجراء تقدير جيد للموقف بعيداً عن التضخيم والمبالغة.
الأشخاص الذين "يكذبون بعدد أنفاسهم" يمكن أن يُشكّلوا مخاطر حقيقية على الشركات والمؤسسات فهم يخرقون جدار الثقة ويشجعون آخرين على ممارسة نفس الفعل إضافة إلى كل ذلك يحرفون النتائج والحقائق وفي عالم الأعمال المبني على الثقة في التعاملات بين التجار والصناعيين والشركات فيما بينهم وكذلك على الثقة بين موظفيهم يجب أن يتم محاربة الكذب والتأكد بأن كلفته الاقتصادية ستكون كبيرة في مستقبل الشركة.