في انتخابات (حزيران/يونيو 2021)، تم ّتسليم الرئاسة الإيرانية إلى إبراهيم رئيسي على طبق من فضة، فقد حرص المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي على التأكّد من أن العملية الانتخابية تمّت هندستها، بأدّق التفاصيل، من أجل تحقيق فوز رئيسي.
فبالنسبة لرئيسي، هذا سيف ذو حدّين، ففي الحدّ الأدنى هذا يعني استمراراً لسياسة طهران، بما في ذلك مجال الشؤون العسكرية والاقتصادية مجتمعةً. إنّ "الحرس الثوري الإيراني" لن يستمر فقط في حرية تشكيل الأجندة العسكرية والإقليمية لإيران، بل سيعود أيضًا إلى مركز الصدارة فيما يتعلق بالتخطيط الاقتصادي. نفس الشيء حدث في عهد محمود أحمدي نجاد عندما منح هو أيضاً "الحرس الثوري الإيراني" حرّية التصرف(وهو القرار الذي ندم عليه لاحقاً)، لكن رئيسي ليس لديه خيار آخر، حيث إنّ حظوظه السياسية تعتمد على الدعم المستمر من خامنئي و"الحرس الثوري الإيراني"، لذلك لا نتوقع منه أن يكشف النِّقاب عن أي سياسات رائدة في أي وقت قريب.
الجانب السلبي للاختيار
إن تعيين خامنئي لرئيسي سيُبقي مسألة معارضته داخل النظام في حدودها الدنيا. وكان هذا واضحاً مسبقاً في كيفية تعامل أعضاء المجلس (البرلمان) مع ترشيحاته الوزارية برفق، فلقد تمّ رفض شخصية واحدة فقط من بين مرشحيه لتسميتهم كوزراء. والجانب السلبي هو أن رئيسي لديه مساحة صغيرة جداً للمناورة كرئيس، على عكس الرؤساء السبعة الذين سبقوه، فهو لا يقود فصيلاً داخل النظام من الممكن أن يعتبره فريقه الخاص، فدائرته المقرّبة تتكوّن من أفراد قادمين من مؤسسات مرتبطة مباشرة بمكتب المرشد الأعلى، وأولئك الذين ينتقلون إلى القصر الرئاسي من صفوف "الحرس الثوري الإيراني" الذي يشرف بشكل أساسي على معظم أجَندة إيران الإقليمية، ودعمه للوكلاء المتشددين في مختلف المسارح عبر الشرق الأوسط، وبرنامج طهران الصاروخي. يمكن أن يسعى رئيسي إلى الانفصال بالطريقة التي فعلها أحمدي نجاد في ولايته الثانية، حتى بعد أن تمّ منحه هو الآحر لمنصب الرئاسة من قبل خامنئي والحرس الثوري الإيراني في عام 2005، لكن رئيسي لن يفعل ذلك، فليس لديه سبب للقيام بذلك؛ لأنّ طاعة أجندة خامنئي والحرس الثوري الإيراني هي ما أوصله إلى هذا الحدّ في مسيرته، وقد يؤدي به إلى القيادة العليا لخلافة خامنئي إذا لعب أوراقه بشكل صحيح.
بينما يتعلّم رئيسي كيفية الإمساك بمقاليد دوره الجديد، وحرصاً على الحفاظ على قاعدة دعمه سليمة، فمن المرجح أن يُضاعف تنفيذ التفضيلات السياسية للمتشددين بدلاً من توجيه البلاد في اتجاه معتدل جديد. إنّ تحدّيه المبكر ضد الرأي العام المحلي الإيراني والدولي يفصح عن نفسه، فقد اختار عدم ترشيح امرأة واحدة أو أقلية دينية لمناصب وزارية، مع اختيار عدد من الشخصيات الأخرى المثيرة للجدل.
على سبيل المثال، عاد رستم قاسمي الذي كان وزيراً للنفط في عهد أحمدي نجاد وزيراً للنقل. قاسمي هو قائد سابق في "الحرس الثوري الإيراني"، وتركّز نهجه الوزاري على منح العقود للشركات المحلية التي لها علاقات مع الحرس الثوري الإيراني، كانت المشكلة أن العديد من عقود النفط والغاز هذه خاصة بالنسبة للمشاريع الكبيرة لم يتمّ الوفاء؛ بها لأن الشركات الإيرانية التي لها علاقات مع الحرس الثوري الإيراني لم تستطع التعامل مع الجوانب المالية والتكنولوجية. يعكس تعيين قاسمي نهج رئيسي بشكل كبير، ويقترح أنه سيفضّل الحفاظ على شبكة الحرس القديم بدلاً من السعي وراء الكفاءة بين كبار المسؤولين الذين يختارهم.
وفي منصب آخر، اختار رئيسي محسن رضائي القائد الأطول خدمة في "الحرس الثوري الإيراني" كنائب له للشؤون الاقتصادية، على الرغم من أنّ رضائي ليس لديه خلفية موثوقة في التخطيط الاقتصادي. كما اختار قائداً آخر في "الحرس الثوري الإيراني"، أحمد وحيدي ليكون وزير الداخلية الجديد.
مأسسة "محور المقاومة"
إن تعيين هؤلاء الرجال العسكريين الذين يتنكّرون بزي "التكنوقراط المؤهلين" يقلّل بالفعل من التوقّعات حول قدرة رئيسي على تحفيز الاقتصاد، والذي قال إنه يمثّل أولوية قصوى لحكومته. وعلى النقيض من ذلك، يمكن توقّع منح حزمة جديدة من العقود للشركات المرتبطة بمكتب المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني، مما يزيد من ترسيخ دور الأخير في الاقتصاد الإيراني، وسيتمّ تبريرها على أنها تعزيز لمفهوم خامنئي كما هو معروف بـ "اقتصاد المقاومة" في مواجهة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة والعزلة الدولية.
يعتمد التزام خامنئي ببناء "اقتصاد مقاومة" إلى حد كبير على حقيقة أنه لا يريد تغيير المسار في السياسة الخارجية، ولكن في نهاية المطاف يُعتَبَر إنهاء العزلة الدولية لإيران هو أسرع طريقة لإنقاذ الاقتصاد الإيراني، لكن هذا يتطلب تنازلات من طهران، بما في ذلك بشأن برنامجها النووي وأجندتها السياسية في الشرق الأوسط.
لكن خامنئي والجنرالات في الحرس الثوري الإيراني ليسوا مستعدين لتحمّل نتائج تلك التنازلات بعد. و بدلاً من ذلك، يبدو أن حكومة رئيسي عازمة على مضاعفة جهودها للمضي قدمًا في أجندتها الإقليمية التي تتمحور حول مفهوم "محور المقاومة".
يتضمن هذا النموذج الإبقاء على معارضة قوية لوجود إسرائيل، والبحث عن فرص لإجبار الولايات المتحدة على مغادرة الشرق الأوسط، ودعم كادر من الجماعات المسلّحة من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق إلى جماعة الحوثيين في اليمن.
في هذا الجهد لتعزيز "محور المقاومة" يحافظ كبار المسؤولين في طهران على استعدادهم لنقل الأسلحة و المعلومات -بما في ذلك الصواريخ والطائرات بدون طيار- إلى الجماعات التي تشارك آية الله خامنئي في رؤية مستقبل الشرق الأوسط. ببساطة، لا تمثّل وصول حكومة رئيسي نقطة تحوّل في نهج طهران تجاه المنطقة أو موقفها العسكري (بما في ذلك الاستثمارات في حرب غير متكافئة من خلال دعم الميليشيات غير الحكومية)، حيث تمّ وضع هذه السياسات واستمرارها موضع التنفيذ من خلال خامنئي وقيادة "الحرس الثوري الإيراني". ما يتبقى هو مدى استخدام خامنئي والحرس الثوري الإيراني وصول حكومة رئيسي كذريعة لتعميق مثل هذه الجهود الإيرانية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائها في الشرق الأوسط.
وقد تحدّث وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبد اللهيان المرتبط "بالحرس الثوري الإيراني" في جلسة تأكيده عن أن إيران تتطلع إلى "إضفاء الطابع المؤسسي" على نموذج "محور المقاومة". حسناً، إنّ الوقت وحده هو الذي سيحدد ما يعنيه هذا من الناحية العملية، ولكن مما لا شك فيه أن هذا سيكون أحد التحديات الأكثر إلحاحاً التي يواجهها رئيسي.
رئيسي.. والحرس الثوري الإيراني والمسألة العربية كمرشح ورئيس، كرّر رئيسي شعاراً أساسياً، وهو أنه سيسعى إلى تحسين العلاقات بسرعة مع الدول المجاورة، ولا سيما دول الخليج العربي. ومن حيث دوافعه لذلك، هناك نقطتان مهمتان بلا شك: أولاً: ليس هناك ما يشير إلى أن موقف رئيسي يمثل تغييراً جذرياً في عقلية النخبة الحاكمة في طهران، بما في ذلك آية الله خامنئي، فيما يتعلق بموقف إيران الإقليمي. بدلاً من ذلك، يبدو أن هذا يتعلّق أكثر بإجراء تعديلات تكتيكية على سياسات ايران الخارجية.
ثانياً: الكثير من دوافع دعوة رئيسي للانفتاح على الدول المجاورة متجذّرة في التحديات التي يواجهها، وأكثرها وضوحاً هو الاقتصاد، فحكومته عمرها أسابيع فقط، لكنها على وشك الإفلاس. ولقد خلق هذا ضغوطاً اجتماعية واقتصادية تخصّ حكومته في بلد أصبح بالفعل قنبلة موقوتة.
إلى جانب اتخاذ خطوات وقائية على أمل تجنب الاضطرابات الشعبية، فإن رئيسي لديه أيضاً دوافعه السياسية المتمحورة حول الذات؛ إذ إنّ وجهة النظر الشائعة عن رئيسي هي أن خامنئي اختاره ليكون رئيساً، وأنه كان على القائمة التي تحتوي أشخاصاً معدودين لخلافة خامنئي.
ولإضفاء الشرعية على رئاسته ورفع مكانته مع أخذ القيادة العليا في الاعتبار يتعيّن على رئيسي أن يقوم وبسرعة بتصرّفات تحسّن من صورته أمام المجتمع الإيراني.
هذا هو السبب في أن سياساته الاقتصادية حتى الآن تشبه إلى حد بعيد تلك التي اتّبعها أحمدي نجاد في 2005، وهي عبارة عن خطاب شعبوي يستهدف الطبقات الدنيا والمتوسطة والطبقات العاملة.
لا يتعين على رئيسي فقط أن يعمل بجهد أكبر لتوليد قاعدة دعم لنفسه مقارنة بأحمدي نجاد (الذي كان لديه في الواقع رصيد مسبق)، ولكن عليه أن يتعامل مع واقع أن لديه موارد مالية أقلّ بكثير تحت تصرّفه للقيام بذلك. على عكس ما حدث في عام 2005، فإن الاقتصاد الإيراني اليوم يعتمد على إجراءات لدعم الحياة.
ويرتبط هذا الواقع الاقتصادي الداخلي ارتباطاً مباشراً بدعوة رئيسي للانفتاح على الدول العربية، حيث إنّ رئيسي يحتاج إلى خفض تكلفة أجندة السياسة الخارجية الإيرانية، ويبدو أنه يحظى بدعم خامنئي للقيام بذلك.
على أقل تقدير، سيعرّض النظام في طهران نفسه لخطر كبير إذا استثمر أكثر في المشاريع الإقليمية على حساب معالجة المطالب المحلّية.
هذا التشخيص هو الدافع الأساسي وراء دعوة رئيسي للانفتاح. ويلعب باقي النظام دوره في الترويج لهذه الرسالة وتسهيل قَبول الدول العربية المجاورة له، فالسعوديون هم المُستهدف الرئيسي، والرسالة واضحة، وتقول أنّ الأمريكيين غير جديرين بالثقة، وغير مهتمين بمستقبل الشرق الأوسط، وقد حان الوقت للجهات الفاعلة الإقليمية لبدء العملية الشاقّة لتقديم تنازلات على أمل تحريك المنطقة نحو ترتيب أمني جديد. ومع ذلك، لم يقم لا رئيسي ولا وزير الخارجية أمير عبد اللهيان ببلورة فكرة أصلية عن كيفية القيام بذلك.
وقد أشارت حكومة رئيسي إلى مبادرة هرمز للسلام (HOPE)، لكن هناك مشكلتان مع المبادرة: أولاهما: تتمثّل في أن سلفه الرئيس حسن روحاني هو من أطلق هذه المبادرة، وثاني مشكلة: هي أنه ما زالت الدول العربية غير مبالية بها (للمبادرة) حتى الآن؛ لذا فإن فائدتها محدودة، ومع الوقت سنكتشف ما إذا كان بإمكان حكومة رئيسي صياغة نوع من المبادرات الإقليمية التي قد تكون ذات فائدة لدول الخليج العربي.
لكن في الحقيقة، لا توجد علامة على ذلك حتى الآن. وفي غضون ذلك، يمكن توقّع أن تمضي طهران قدماً في عملية الانفراج على أساس ثنائي مع الدول العربية المجاورة.
وأفضل ما يمكن أن نأمله في الوقت الحالي هو أن تحدّد إيران ودول الخليج المجالات ذات الاهتمام المشترك، مثل التعاون الأمني البحري، إذ إنّ عدد الحوادث التي تعرضت لها السفن في الخليج العربي وبحر العرب في السنوات الأخيرة -بما في ذلك عمليات الاستيلاء وهجمات الطائرات المسلّحة بدون طيار- يجعل هذا مجالاً وثيق الصلة للتعاون المحتمل، لكن لكي يحدث هذا على طهران أن تعترف بالمشكلة أولاً.
إنه في أوائل شهر آب/أغسطس اشتكى المسؤولون الإيرانيون في الأمم المتحدة في نيويورك من عمليات "العَلَم الكاذب" في المياه الإقليمية من قبل إسرائيل وحلفائها بهدف تأطير إيران. في الوقت نفسه، أعلنت طهران انفتاحها على العمل مع دول الجوار في مجال الأمن البحري وحرية الملاحة.
ويشكّل هذان الموقفان المتناقضان معضلة سياسية، فمن حيث الجوهر، في الوقت الحالي يبدو أن الموقف الإيراني من التعاون الإقليمي مشروط مسبقاً بجيران ليس لديهم تعاون أمني وعسكري مع إسرائيل، وهذا بدوره يضع دول الخليج -وخاصة الإمارات والبحرين اللتين تربطهما علاقات دبلوماسية مع إسرائيل- في موقف صعب. ويتمثّل التحدّي الذي تواجه دول الخليج في الضغط على طهران لفصل المجالات المحتملة للتعاون التكتيكي، مثل الأمن البحري، عن خِيارات السياسة الخارجية الإستراتيجية الأوسع التي تتخذها كل دولة.
الأمر الآخر المقلق بنفس القدر هو أن مسألة إسرائيل تظلّ مكوّناً أيديولوجياً متأصّلاً في "محور المقاومة" المعلن في طهران. هذا في الأقل خطاب الحكومة الإيرانية الجديدة، وهو يخلق تحدياتها الخاصة، فكيف تطمئن دول الخليج المعنية بشأن طموحات طهران الإقليمية عندما تعلن صراحة أنها تريد تعزيز جانب واحد فقط من السياسة الخارجية الإيرانية، وهو الحانب الذي يستاؤون منه أكثر من غيره.
فالقضية الرئيسية لدول الخليج هي ما يلي: إذا اختاروا قَبول مبادرات إيران والدعوة إلى التعاون الإقليمي، فكيف يمكنهم حينئذٍ دفع طهران بعيداً عن الاستثمار أكثر في "محور المقاومة"، الذي هو في الأساس موقف مناهض للوضع القائم، وبالتالي تحريضاً على المزيد من عدم الاستقرار الإقليمي؟
تحت الضغط
سيكون أمام جيران إيران وبقية العالم قريباً المزيد ليحكموا على رئاسة رئيسي من خلاله. ومع ذلك، من المهم قَبول بعض الحقائق الأساسية حول كيف أصبح رئيساً في المقام الأول؟ وأي مجموعات مصالح في طهران هي التي يدين لها بالفضل؟ على المستوى المحلّي هذا يجعل من الممكن أن تكون دوافع رئيسي واضحة في أعيننا، من حيث من يختار تنصيبه ليكون دائرته المقرّبة والرسالة القاتمة التي يرسلها هذا بدوره حول احتمالية السياسة المُتَبنّاة في طهران.
ومع ذلك، فإن رئيسي، ونفس الدوائر التي وضعوه في القصر الرئاسي يتعرضون لضغوط هائلة؛ فجميع أدوات السلطة في طهران الآن في أيدي المعسكر المتشدد، كما أنه تحت وطأة العقوبات الساحقة، فإن العمل كالمعتاد ليس خياراً، فكلّ من خامنئي، ورئيسه المختار بعناية، و"الحرس الثوري الإيراني" الذي يضمن بقاء النظام بالقوة لديهم بعض الخيارات الصعبة التي يجب اتخاذها بشأن أفضل السبل للحفاظ على سلطتهم.
المصدر: معهد الشرق الأوسط ترجمة: عبدالحميد فحام