"نداء بوست" – حوارات – أسامة آغي
الرسام السوري أسعد فرزات ليس فناناً تشكيلياً وحسب، ففنه القائم على الفكرة والاندياح اللوني يكشف عبر مساحات وخطوط أعماله عن دهشة بكرٍ، هي دهشة الماء وهو يتلون بأخضر أشجار الغرب الفراتية، وزرقة سماء تنهشها شمس تمسح ببرتقالها جبهة الروح.
”نداء بوست“ أثار شجون أسعد فرزات حين التقى به عبر الأثير فكان هذا الحوار.
ملامح الوجوه هي مشروعي
يرسم أسعد فرزات وهو سليل أسرة ينبع الفن من أعماق روحها الوجوه البشرية، الوجوه التي ولّدتها أحداث ثورة شعب ضد مستبد، فكانت بملامح مختلفة من الأمل والانكسار والإحباط والبحث عن الانتصار على الظلم، لهذا يقول إن جميع هذه المشاهد من الاحاسيس، من قهر وحزن وأمل وفرح، لا تستطيع قراءتها سوى بالملامح، لذلك الوجوه هي مشروعي منذ عام 2011/2012، عندما بدأت المأساة ترسم خطوطها الأولى بملامحنا، وتطورت فيما بعد لتشمل كافة الملامح.
ويوضح فرزات طبيعة وانتماء هذه الوجوه فيقول: هذه وجوهنا نحن السوريين، وجوه أحبة غادرتنا، ولا نستطيع أن نراها مرة أخرى، وجوه من بقايا ملامح رشقها أرعن بحفنة من أسيد ملاح، بالكاد أن نعرفها، وجوه ابتلعها البحر، أو وجوه طافت على الشطآن، وجوه لم يتبق منها سوى قناع من ملح البحر وبقايا ملامح، وجوه على غفلة منها مرّت بها شظية ساخنة، أخذت معها عين وجزء من الأنف.
ويضيف: هكذا هي وجوهي التي أجسدها على قطعة من قماش وقليل من الألوان، وأدور بها العالم علّني أصل وجعي ووجع أهلي.
مأساتنا عرّت الكثيرين
سألنا فرزات عن الوجوه التي يرسمها فيما إذا كنت تعبيراً عن حالات وجدانية يعيشها بسبب ما يتعرض له شعبنا السوري من فظائع، فقال إن الحرية والفن متلازمان، ولا يمكن فصل الحرية عن الفن والعكس صحيح.
وأضاف: ما أعبّر عنه هو حالة وجدانية خالصة، وهي مسؤولية أخلاقية تجاه مأساة لم يحصل لها شبيهاً على مدى التاريخ، المأساة السورية أحرجت الكثير، وكشفت نوايا الجميع. ويستطرد: هنا لا مجال للكذب والمراوغة، ولا حتى الرمادية، أما أن تكون صادقاً وحرّاً، وتقف ضد الظلم والعنف وعفن الديكتاتورية، أو مع.. وهذا ما حصل، المأساة عرّت الكثيرين، البعض منهم كان بواجهة المشهد الثقافي، وكانوا يتغنون بالحرية، تبيّن عكس ذلك، كان سقوطهم كارثة بالنسبة لهم أقصد، بمعنى سقوط من الصعب إصلاحه.
التشكيل والشعر صورتان متقاربتان
وحول المشترك بين رسمه وشعر نوري الجراح وترافقهما في أمسية مشتركة في آذار القادم في العاصمة الفرنسية باريس، يقول فرزات: أعتقد أن هناك علاقة من الصعب فصلها بين الصورة الشعرية والصورة كلوحة.
ويعتقد فرزات أن الصورتين متقاربتان من ناحية ذهنية، وما تحمله من عناصر يشكلها الخيال، وبرأيه: الأحاسيس المشتركة نفسها يحولها الشاعر إلى مشهد بتكنيك لغوي خاص به، كما يحولها الرسّام بتكنيك تقني ولوني بعد أن يكتمل المشهد بالدماغ، وبالحالتين أيضاً يحتاج الدماغ لمعالجة المشهد من حذف وإضافات مدة أطول من التنفيذ، بمعنى أن الحالتين حالة من التأمل، يستغرق وقتاً أطول.
ويرى أن هناك تماساً شديداً بين الصورتين، هناك حالات مشتركة على مدى التاريخ بتجسيد بين الحالتين، وما نشاهده من روعة التماثيل السومرية إنما هي مستمدة من صور جلجامش، والتي تعتبر أول قصة كتبها الانسان، بالإضافة إلى التماثيل الإغريقية المرتبطة بالأدب.
يقول فرزات إن غوستاف دوريه استمد أعماله من رواية سرفانتس وملحمة ”الفردوس المفقود“، وونرى هذا كذلك في لوحة ”قارب دانتي“ لدو لا كروا المستلهمة من ملحمة الشاعر الإيطالي دانتي اليغيري. ويبيّن فرزات العلاقة بين فنه وشعر نوري الجراح بقوله: بالنسبة لمشروعي أنا والشاعر نوري، هناك تقارب بالصورة، التي تحدثت عنها ببعض اللوحات التي أنجزتها، ربما هذا التقارب يعود لنفس الألم، ألم الكارثة المشتركة مع الفارق أن النص لدى نوري، وأنا اعتبره ملحمة حقيقية، ملحمة تسرد وجعنا القائم منذ خمسين عاماً.
ويضيف فرزات: إن كثافة الصور والمشاهد المتلاحقة بالنص تجعلني مرتبكاً أحياناً، لأن كل مدخل من مداخل القصيدة تحمل كماً هائلاً من الصور، التي تحفّز على خلق مشاهد بصرية لا حصر لها. وهو يرى أن مشروعه هو مشروعٌ ذهنيٌ أيضاً بحد ذاته، وسيتم المشروع في شهر آذار القادم تزامناً مع صدور كتاب للشاعر نوري الجراح بباريس.
الفرات بحالة رقص
وعن علاقته ببيئة دير الزور، التي اكتشف فيها طفولته وسنوات طويلة من شبابه، وأثرها على فنه يقول الفنان نصف الحموي ونصف الفراتي: من حسن حظي أني شربت ماء النهرين، العاصي، والفرات، لكني قضيت الفترة الأطول على ضفاف الفرات، ثم انتقلت لأستقر على ضفاف بردى وقاسيون.
ويصوّر فرزات رؤيته للنهر فيقول: النهر حكاية، والرسم يحتاج لحكاية، مضيفاً: كنت طفلاً استمع لحكايات الجدات، جدات أصدقائي عن السعلوية التي تسكن الفرات، وتكون على هيئة امرأة جميلة تسكن النهر وتخطف الرجال.
ويستطرد فرزات في الحديث عن مكان آخر حميم بالنسبة إليه فيقول: عندما أذهب إلى حماة في العطل الصيفية، أسمع من الجدات عن حكايات الجنّيات التي تسكن العاصي أيضاً، لدرجة عندما كبرت قليلاً، تمنيت أن تخطفني ، لأتعرف على أسرارها لدرجة أن لي صديقاً يكتب القصة القصيرة، كتب قصة كيف خطفتني السعلوية، وخبأتني في نهر الفرات، الذي كان مصدراً أولياً لإلهامي بإنتاج أول لوحة لي، ولا يزال بذاكرتي انعكاس أشجار الغرب الفراتية، وانحناءاته الراقصة على سطح الماء، حيث يملأ ماء النهر باللون الأخضر، فأشعر أن النهر بحالة رقص، لذلك هو يحتاج إلى ريشة ترقص أيضاً، أو ”ريشة معربدة“، كما أطلق عليها مؤخراً أسعد عرابي واصفاً أعمالي الأخيرة، ويختم فرزات حديثه بالقول: يبدو أن هذه ”العربدة اللونية" لا تزال تلازمني في أعمالي حتى الآن، عربدة تطلق للون العنان والرقص والانتقال من مقام إلى مقام بكل حرية في فضاء اللوحة.