سؤالانِ محيِّرانِ ما زال العالم يبحث عن إجابات لهما، السؤال الأول يتعلق بإصرار حكومة بايدن على الالتزام بموعد انسحابها المتفق عليه مع حركة طالبان التي نفذته آخِر الشهر الماضي، والسؤال الثاني بخصوص عملية التنسيق وتبادل المعلومات مع حركة طالبان التي لم تسمح بإعطاء الإدارة الأمريكية الفرصة لسحب قواتها ومؤيديها من الأفغان، ما شكّل إحراجاً كبيراً لها أمام أقرب حلفائها وكان نتيجته خلق الفوضى التي سمحت لداعش بتنفيذ عملياتها الإرهابية التي راح ضحايا عدد ليس بالقليل من القوات الأمريكية التي كانت تتولى حراسة مطار كابول.
إصرار إدارة بايدن على هذا التعاون الاستخباراتي مع حركة طالبان لا يختلف عن إصرارها على تنفيذ اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني في الوقت الذي تماطل فيه حكومة طهران الجديدة في العودة لطاولة التفاوض غير المباشر بما يسمح لها بتعزيز قدراتها النووية والصاروخية ويجعل موقفها في أي عملية تفاوض قوياً وغير قابل لفرض الشروط الغربية الجديدة عليها، يضطرها لتقليص نفوذها الواسع في لبنان وسورية والعراق واليمن، وتحجيم برنامجها الصاروخي الذي تجهد في تسريع وتيرته وتعزيز قدراته التدميرية.
تقتضي عمليات التنسيق وتبادل المعلومات كما هو معروف مع حركة طالبان عدوها اللدود السابق أن تقوم المخابرات المركزية الأمريكية بمد الحركة بما يتوفر لديها من معلومات استخبارية بخصوص الوضع في أفغانستان وهذا يشكل مرحلة متقدمة من التعاون الأمني والإستراتيجي بين الطرفين لم يكن له أن يتحقق لولا وجود توجُّه أمريكي لتعزيز قيام حكومة إسلامية معتدلة تتعاون استخبارياً وأمنياً مع الإدارة الأمريكية، ما يسمح لها بمعرفة الأخطار والتهديدات التي يمكن أن تشكلها الحركات الإسلامية المتطرفة التي تتخذ من أفغانستان ملاذاً لها كتنظيم داعش وسواه من الحركات الإرهابية، خاصة أن وجود هذه الحركات يشكل تهديداً قوياً لسلطة طالبان الجديدة. إن ما يمكن أن يترتب على علاقة الصراع المنتظر بين حركة طالبان وهذه التنظيمات يمكن أن يشكل استنزافاً حقيقياً لقوة الطرفين ويُدخل أفغانستان في حرب داخلية، الأمر الذي يجعل خطر هذه التنظيمات يظل محصوراً داخل حدود الدولة، ويمنعها من التفرغ لتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة.
والسؤال الذي يُطرح هنا ماذا عن علاقة هذه التنظيمات المشبوهة مع بعض دول المنطقة مثل إيران وكيف سيجري توظيفها لإفشال الخطة الأمريكية في حال وجودها؟ لاسيما أن نموذج الطالبان في أفغانستان سيكون مخالفاً للنموذج الإيراني على المستوى الأيديولوجي والعقدي ناهيك عن المخاوف الإيرانية من تأثير صعود طالبان على الجماعات السنية الموجودة في المناطق المجاورة لأفغانستان والتي تعيش حالة من التهميش السياسي والثقافي.
إن محاولة الإدارة الأمريكية التخلص من الأعباء المادية والعسكرية الكبيرة من خلال لعب دور الشرطي هناك سوف يترتب عليه تحديات أمنية وسياسية لأكثر من طرف في المنطقة تأتي إيران وروسيا والصين المتهمة باضطهاد الجماعات الإسلامية السنية فيها ما يتطلب منها وضع إستراتيجيات جديدة لمواجهة هذا التحدي ويشكل ضغطاً عليها في الوقت الذي ستحافظ فيه الإدارة الأمريكية على علاقة متوازنة مع الحركة وإلا فما معنى إصرار الإدارة الأمريكية على تنفيذ اتفاقاتها المبرمة مع طالبان على الرغم من النتائج المهينة التي ترتبت على هذه السياسة. بالمقابل ثمة محاولات من أطراف إقليمية في المنطقة لاستثمار انتصار طالبان وتوظيفه لحسابها الخاص لكنه ما يزال يصطدم برغبة طالبان في تحديد شروط هذا التعاون وحدوده وَفْق اعتباراتها الخاصة. وتأتي تركيا في طليعة هذه الدول التي حاولت من خلال وجودها العسكري هناك كجزء من قوات حلف الناتو أن تجد لها موطئ قدم تعزز فيه نفوذها ويُظهرها كدولة راعية للحركات الإسلامية في المنطقة. بعض قيادات طلبان لم تُخفِ استعدادها لهذا التعاون لكن من المبكر معرفة حدود هذا التعاون ومضمونه قبل معرفة السياسة التي ستنتهجها طالبان مستقبلاً.
باكستان هي الدولة الوحيدة التي رحبت بانتصار حركة طالبان التي تتمتع معها بعلاقات قديمة في الوقت الذي تشهد فيه علاقات التعاون العسكري والسياسي "الباكستاني-التركي" تطوراً لافتاً يمكن له أن يشكل أساساً لقيام محور سني جديد باكستاني أفغاني تركي في مواجهة المحور الإيراني، ما سيؤدي إلى ظهور تحالفات جديدة في المنطقة سوف يترك أثره الكبير على علاقات دول المنطقة مع بعضها بعضاً. إن هذه التغيرات الجيوسياسية في منطقة تعج بالتناقضات والصراعات التي تتخذ طابعاً مذهبياً لمد النفوذ والسيطرة سيجعل من الصعب رسم حدود فاصلة بين طموحات هذه الدول ورغبتها في تعزيز نفوذها في بلدان تراها مجالاً حيوياً لنفوذها التاريخي والسياسي، ما سيترتب على ذلك الدخول في دوامة من الصراع المباشر أو غير المباشر من خلال حلفائها في هذه المنطقة أو تلك من دول المنطقة.
في عام 1979 أمرت الولايات المتحدة الأمريكية حليفها شاه إيران بمغادرة البلاد بعد التظاهرات الشعبية الحاشدة ضد نظامه، في حين حملت طائرة فرنسية خاصة الإمام الخميني معززاً مكرماً من باريس إلى مطار طهران. لم يكن ذلك الحدث الدراماتيكي دلالة على التحول الذي طرأ على علاقات الغرب بإيران لأن تأثيراته الجيوسياسية الكبيرة التي ما تزال مستمرة حتى وقتنا الراهن سوف تؤدي إلى إشعال الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثماني سنوات، وإلى تأجيج الصراعات المذهبية في أكثر من دولة إضافة إلى أن هذا الخطر الداهم وضع الدول النفطية الحليفة للغرب أمام تحدٍّ مصيري جعلها تزيد في اعتمادها على الغرب لتأمين حمايتها من جهة، وتتجه لبناء تحالفات جديدة في المنطقة تحولت فيها إسرائيل إلى محور استقطاب لمواجهة هذا التهديد، لاسيما بعد تعاظم القوة النووية الإيرانية والصاروخية وتطويق هذه الدول بحزام من الميليشيات العسكرية الموالية لها طائفياً وسياسياً في العراق واليمن وسورية ولبنان.
فهل ثمة تشابه بين ما حدث قبل أزيد من أربعين عاماً وما يحدث الآن في أفغانستان. الجواب على ذلك ستكشف عنه الشهور القادمة وإن كانت بعض مقدماته قد بدأت تَشِي بشيء منه. أما الروس فإنهم لا يخفون مخاوفهم ممّا حدث علانية دون أن تقنعهم التطمينات التي قدمها قادة الحركة للسفير الروسي في كابول. الغارات الجوية الروسية على الشمال السوري ربما تكون محاولة للتحرش بتركيا كمقدمة لإجراء مقايضات تستبق ما يمكن أن ينتج عن الزلزال الأفغاني من تداعيات على الجوار الإسلامي التابع لروسيا والمتاخم لأفغانستان. فهل أرادت الولايات المتحدة أن ترمي أكثر من عصفور بحجر واحد؟