لا يختلف الباحثون بأن القضية الكردية في تركيا قضية مُزمِنة ظهرت بظهور الدولة التركية الحديثة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 وكان هناك في بداية التأسيس اعتراف صريح بأن تركيا الحديثة هي دولة الترك والكرد، وبموجبه أعلن إينونو في مؤتمر "لوزان"، أن «تركيا هي للشعبَين، التركي والكردي، المتساويَين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قوميّة متساوية».
لكن ذلك الوضع لم يَدُمْ طويلاً حتى تنكَّر له وضَرَبَ بكل العهود والمواثيق عُرض الحائط وألغى الخلافة أيضاً 1924، ومن حينها بدأت القضية الكردية بالتبلور والظهور بقوة على الساحة التركية، حيث قامت عدة ثورات كردية، منها ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 وثورة الجنرال إحسان نوري باشا عام 1928-1932 وثورة السيد رضا في ديرسم عام 1937، ولكنها جميعها قمعت بقسوة ومُنع التكلم باللغة الكردية حتى في الأماكن العامة، ويُحاسب كل مَن يتحدث بها، وتم اعتبار الأكراد (أتراك الجبال).
ونتيجة للترابط العضوي بين الديمقراطية والقضية الكردية سيطر الجيش على كامل مفاصل الحياة السياسية، وقمع كل توجه ديمقراطي حقيقي في تركيا، وهكذا أعدم الرئيس عدنان مندريس 1961 لأن توجُّهه السياسي الديمقراطي لم يكن ينسجم وسياسة العسكر، وبناءً عليه كانت تركيا تشهد بين فترة وأخرى قيام الجيش بانقلاب عسكري والعودة بتركيا إلى المربع الأول بعد كل نهوض ديمقراطي، حتى كان ظهور حزب العمال الكردستاني على الساحة التركية وإعلانه الكفاح المسلح ضد الدولة التركية مطالبة بالاستقلال عن تركيا وتأسيس الدولة الكردية.
ونتيجة لذلك فقد شهدت تركيا صراعاً دموياً كبيراً، دمر الآلاف من القرى الكردية وتم تهجير الملايين إلى الداخل التركي، وتدخلت دول عديدة لمساندة pkk لا حباً للكرد بل كُرْهاً لتركيا، وفي 1991 جرت مفاوضات غير مباشرة بين pkk والرئيس التركي تورغوت أوزال وعلى إثره أُعلن وقف إطلاق النار وشهدت تركيا مرحلة هدوء واستقرار نسبي، لكن سرعان ما تجددت بشكل أعنف من السابق بوفاة أوزال 1993 في ظروف غامضة.
واستمر الوضع هكذا ولم تهدأ المعارك حتى باعتقال زعيم الحزب عبدالله أوجلان 1999، لكن الأمور بدأت بالتغيير بعد تسلُّم حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا 2002 ولم يمضِ وقت طويل حتى أعلن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بكل جرأة في ديار بكر في 12 آب 2005 (نعترف بالقضية الكردية، ونحن سنحلها) معلناً بَدْء مرحلة جديدة في التعامل مع القضية الكردية وأكد على الربط ما بين القضية الكردية والديمقراطية، وحينها خفت كثيراً حدّة المواجهات العسكرية، وبدأ العدّ العكسي إيجابياً في التعامل مع الكرد واتخذت الدولة التركية سلسلة إجراءات من جانب واحد تهم الكرد وتصب لمصلحتهم.
من أهمّ تلك الخطوات السماح بعمل دورات خاصة لتعليم اللغات الأخرى غير اللغة التركية عام 2003، فاتحاً الباب على مصراعيه لتعلم اللغة الكردية، بل قام بفتح عدد من الأقسام لتعليم تلك اللغات داخل الجامعات التركية، والاعتراف بحق التأليف والنشر باللغة الكردية، وفي 2009 تم لأول مرة افتتاح قناة تلفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكردية ضِمن مجموعة (تي. آر. تي) المملوكة للدولة، وفي 2012 تم السماح بتعليم اللغة الكردية كمادة اختيارية في المدارس، وفي تطوُّر آخر لافت قررت الدولة في يناير/ كانون الثاني 2013 السماح للمتهمين الأكراد باستخدام لغتهم الأم في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء.
كما أقر الدعاية السياسية والحزبية بلغات ولهجات أخرى غير التركية، وأمر باستخدام الأسماء الكردية الأصلية لعدد من البلديات والقرى الكردية التي كان قد تم تتريكها، وقام البرلمان بتشديد عقوبة الجرائم العنصرية، والتمييز بين المواطنين على أساس القومية أو العِرْق أو اللغة.
وكانت تتزامن هذه الإجراءات الإيجابية مع المفاوضات السرية المباشرة، لأول مرة بين pkk والدولة التركية في أوسلو 2009 ، ثم انتقلت إلى العلن في 2012 ومع زعيم pkk أوجلان في سجنه في "إيمرالي" بعد أن تيقَّنت تركيا بأن لا أحد من قيادة pkk يتجرأ بتجاوز أوجلان في التفاهم حول أي حلّ للقضية الكردية، وكان هذا قراراً صائباً وجريئاً من الدولة التركية في الحوار مباشرة مع أوجلان.
ولم يستغرق الوقت طويلاً حتى حصل تفاهُم بين الطرفين في بداية 2013 حول عدة نقاط أساسية، من بينها إلقاء pkk السلاح وإصدار الدولة عفواً عاماً عن جميع المعتقلين السياسيين من أنصار pkk والاعتراف بالهُوِيَّة القومية الكردية، وأرسل أوجلان برسالة قُرئت في يوم "نوروز" 2013 بديار بكر، طالب أنصاره بإلقاء السلاح وبأننا بدأنا مرحلة جديدة من السلام في تركيا، لكن "حساب البيدر" لم يطابق "حساب الحقل" فلا قيادة "قنديل" تجاوبت مع رسالة قائدها ولا الدولة أصدرت عفواً عامّاً، وبقي أوجلان رهين محبسه.
لكن ومع كل ذلك التزم الطرفان بوقف إطلاق النار وحصل انفتاح جدي على الموضوع الكردي في عموم تركيا وتشكلت لجنة من الحكماء لتعزيز الاتفاقية الموقعة بين الطرفين، وشهدت تركيا في تلك المرحلة نهوضاً اقتصادياً لافتاً، لكن الاتفاقية مع الأسف نُسفت في أواسط 2015 ، ورمى كل طرف على الآخر مسؤولية نسفها، لكن برأيي أن الاتفاقية شابتها نقطتان عمليتان أساسيتان.
الأولى: أن الاتفاقية وقعت مع أوجلان، وكان يُفترض أن يتم الإفراج عنه أو وضعه تحت الإقامة الجبرية والسماح له بالتواصل مع قيادته وأنصاره في الداخل والخارج لإلزامهم بتنفيذه، إضافة للسماح له بالظهور الإعلامي للتواصل المباشر مع الشارع الكردي والتركي لتهيئة الأرضية المناسبة لتنفيذ الاتفاقية.
والثانية: اقتصار الاتفاقية على pkk وتجاهُل القوى الكردية الأخرى من سياسيين وأكاديميين وشخصيات اجتماعية مؤثرة غير موالية لـ pkk في الساحة الكردية التركية.
وما زاد الوضعَ تعقيداً هو الانقلابُ العسكريُّ في تموز 2016 واتهام حزب العدالة والتنمية لـpkk بمؤازرة الانقلابيين بالتنسيق مع جماعة "غولن"، وهكذا أُسدل الستار على مرحلة سلام وتم البدء بمرحلة جديدة من الصراع الدامي مرة أخرى، وتوسعت رقعة الصراع لتمتد إلى ساحات دول الجوار، في كردستان العراق وسورية، وما زالت مستمرة وتدخلت دول مختلفة مع تركيا في ساحة الصراع ودعم pkk مرة أخرى، خاصة من جانب إيران؛ لأنها على خلاف كبير مع تركيا في سورية والعراق، إضافة لدول أخرى إقليمية ودولية أخرى. ولأسباب مختلفة.
وبذلك نُسف تماماً مبدأ "صفر مشاكل" مع الجيران الذي رفعه حزب العدالة والتنمية، والسبب حسب رأيي، يعود إلى تشعُّب تعقيدات الأزمة السورية والصراع مع pkk خارج الحدود، وهذا ما انعكس سلباً على الوضع على الداخل التركي من تدنِّي قيمة العملة بشكل حادّ أمام الدولار، وانعكاس ذلك سلباً على معيشة المواطنين، لذلك تنبَّه الرئيس أردوغان إليه مؤخراً وبدأ سلسلة من الخطوات لتحسين العلاقة مع الدول الإقليمية (مصر – الإمارات- السعودية- إسرائيل..وغيرها).
ويُعتبر هذا التوجُّه في السياسة التركية أمراً مُرحَّباً به، ويُسهم في استقرار المنطقة، لكن لا يمكن لتركيا تحقيق ذلك دون العودة إلى ترتيب البيت الداخلي، وخاصة معالجة القضية الكردية من جذورها منعاً لاستغلالها مرة أخرى من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن لأي دولة أن تواكب التطور والنمو الاقتصادي المطلوب دون وجود مناخ وبيئة محلية آمِنة، ودون هَدر الطاقات في صراع لا جدوى من استمراره إلى ما لا نهاية، لذلك لا بد من العودة إلى التفاهُمات مع أوجلان حيث ما زال أوجلان يمثل الشخص الأكثر تأثيراً على pkk من أي شخص آخر، إضافة إلى مشاركة القوى السياسية الأخرى في أي تفاهُم مستقبلي، وإذا ما تحقق ذلك فإن القضية الكردية، بدلاً من أن تُشكِّل عبئاً على تركيا فإنها ستصبح ثقلاً كبيراً لصالح تركيا في المنطقة، وخاصة في دول تواجُد الكرد، وفي أوروبا أيضاً، إضافة إلى خَلْق استقرارٍ مُستدامٍ يُوفِّر الأرضية للنهوض المطلوب.