المصدر: معهد الشرق الأوسط
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: ديانا دارك (مؤلفة وكاتبة صحافية في الغارديان والتايمز وغيرها)
عندما دخلت روسيا الحرب السورية في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2015، بدأتُ مشاهدة شبكة التلفزيون الروسية (RT) التي تسيطر عليها الدولة. لقد راقبتُ بعناية ولمدة ست سنوات الكيفية التي تعرض بها روسيا نظرتها للعالم أمام جمهور عالمي، وفصلاً دراسياً رئيسياً في الواقع البديل والتلاعب بالمعلومات. يتم الآن إعادة استخدام هذه الأساليب نفسها في تقارير روسيا عن “عمليتها العسكرية الخاصة لتحرير أوكرانيا من النازيين الجُدد”. لقد تمّ إجبار جميع وسائل الإعلام المُستقلة في روسيا على الإغلاق، مما يضمن أن رواية الرئيس فلاديمير بوتين للأحداث فقط هي التي ستصل إلى آذان وأعين الروس.
من خلال المهارات التي تم صقلها خلال عقود من العمل لدى جهاز المخابرات الروسي الـ “كي جي بي” (KGB)، بما في ذلك الوقت الذي أمضاه كضابط اتصال في مؤسسة شتازي (Stasi) القمعية في برلين الشرقية، يُعَدّ الرئيس بوتين من عُشاق فن المعلومات المُضللة.
إنه يعرف مدى أهمية إطلاق سرديّة من البداية وعدم الانحراف عن نص تلك السردية ليحافظ على الجمهور الذي يصدقه. قدمت له سورية أرضية التدريب المثالية لأوكرانيا.
فقد سُمح لصحافيي RT بالاطّلاع بحرية داخل البلاد للإبلاغ عن رواية الحكومة الروسية للأحداث، في حين مُنع الصحافيون الغربيون من التأشيرات. لقد شوّهت وسائل الإعلام الروسية مراراً وتكراراً سمعة عمل الخوذ البيضاء، والتي عرضت لقطات لشريط توثيقي مباشر يُناقض بشكل قاطع الدعاية الروسية حيث أظهرت غارات جوّية للنظامين الروسي والسوري على المدارس والمستشفيات والأسواق في جميع أنحاء البلاد.
وقامت شبكة الـ “بي بي سي” البريطانية ببحث مُكثّف للكشف عن هذا التكتيك في سلسلة البودكاست “خرافات”.
ولمواجهة الغضب الغربي في أوكرانيا، يستخدم بوتين تكتيكات اعتاد عليها في سورية، زاعماً أن الهجمات الروسية مُزيّفة أو أن الأوكرانيين أنفسهم نفذوها كجزء من حملة تشهير ضد روسيا. في سورية، زعمت روسيا أنها تُجري مصالحات، بينما ترفض في الوقت نفسه المساعدات الإنسانية للمناطق التي يسيطر عليها الثائرون على النظام الذين كانت مناطقهم تحت الحصار، بنفس الطريقة التي يتم بها إحباط الممرات الإنسانية لإجلاء المدنيين بشكل روتيني في أوكرانيا.
لقد تمّ إعطاء السكان المُحاصرين في سورية، الخيار – إما التجويع أو الاستسلام. وعندما استسلموا في النهاية، توسّط الروس في “صفقات مصالحة” وهي التي تمّ التراجع عنها بعد ذلك.
استخدمت روسيا “مناطق خفض التصعيد” كإجراءات إستراتيجية مؤقتة، مما أتاح لها كسب الوقت لإعادة التركيز على الجهود العسكرية في مناطق أخرى، تماماً كما تفعل في أوكرانيا الآن. في سورية خرقت بعد ذلك اتفاقيات خفض التصعيد، وألقت باللوم على “الإرهابيين” في الانتهاكات. وحتى يومنا هذا، لا تزال الرواية الكاذبة قائمة في العديد من الأوساط الغربية بأن الحرب السورية كانت تدور حول محاربة “الإرهابيين” مثل “داعش”. لكن الأبحاث أثبتت أن أكثر من ثلاثة أرباع القتلى في الحرب السورية لم يقتلهم إرهابيو داعش ومتطرفون آخرون، ولكن من قِبَل نظام الأسد وداعميه – روسيا وإيران وحزب الله. فقد قتلت “داعش” وأمثالها 6٪ فقط.
ونادراً ما استهدف بشار الأسد ومُشغّلوه الروس “داعش”. وبدلاً من ذلك، طاردوا المعارضة المعتدلة – كما فعل “داعش” – مُدركين جيداً أنهم يشكلون التهديد الحقيقي لهم. فمن بين نصف مليون سوري قُتلوا، كانت الغالبية العظمى من المدنيين الأبرياء والنساء والأطفال وليسوا “إرهابيين”.
ومع تزايد التقارير عن استخدام القوات الروسية للأسلحة الكيميائية في أوكرانيا، يجب أن نتوقع المزيد من الدروس المستفادة في سورية. لقد زعمت وسائل الإعلام الروسية أن الصور المُروّعة العديدة لسوريين قتلى بالغازات، والتي رفعها شهود عيان في مكان الحادث، كانت مُزيّفة باستخدام “ممثلين”. وعندما حاولت فِرَق من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) الوصول إلى مواقع لجمع الأدلة، تمّ منعهم “لأسباب أمنية” وأُخبروا أن الجنود كانوا “يؤمّنون” المنطقة.
بينما كان الذباب الإلكتروني المدعومون من روسيا نشطين على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم رئيس النظام السوري، تماماً كما هو الحال اليوم في دعم تصرفات بوتين في أوكرانيا، تم إغراء المدافعين عن الأسد، بما في ذلك الأكاديميون البريطانيون المحترمون وأعضاء البرلمان، بترديد ما يقوله الذباب الإلكتروني الروسي، مما تسبب في أضرار لا حصر لها في التصورات العامة للحرب السورية. وقد أجرت صحيفة التايمز تحقيقاتها الخاصة مع هؤلاء الأشخاص. ففي شهر نيسان/ إبريل من عام 2018، سافرتُ بنفسي مع وفد أُطلق عليه اسم “Crazy Club” لتقويض رسالته من الداخل.
وقد تمّت دعوتي من قِبل الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لزيارة سورية والقيام بجولة فيها، وعُوملنا معاملة مَلَكِيَّة، وكان من السهل أن نرى كيف اختار المسيحيون طوال الحرب التي استمرت 11 عاماً الانضمام إلى الأسد لضمان بقائهم. يحدث الشيء نفسه اليوم مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، حيث يقف البطريرك كيريل في موسكو إلى جانب بوتين، مانحاً غزو أوكرانيا مباركته ووصفه بأنه “حرب مُقدّسة”.
وعلى النقيض من ذلك، سافرت بعثة متعددة الأديان من المسيحيين والمسلمين واليهود والهندوس والبوذيين بقيادة روان ويليامز، رئيس أساقفة كانتربري السابق، إلى أوكرانيا لمقابلة اللاجئين، على أمل إقناع الرئيس بوتين والكنيسة الروسية الأرثوذكسية بضلال طرقهم.
ويدعم ويليامز حتى الدعوات لاستبعاد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من مجلس الكنائس العالمي.
إذا كانت مجموعة مماثلة متعددة الأديان فقط قد تحدثت منذ سنوات ضد الطريقة التي استخدم بها كل من الرئيس الأسد والرئيس بوتين علاقاتهما مع الكنيسة الأرثوذكسية لإبراز أنفسهم كأوصياء على الأقلّيات، فربما اتخذت الحرب مساراً مُختلفاً، وكثير من إراقة الدماء كان من الممكن تجنُّبها.
بدلاً من ذلك، وبشكل مأساوي، على الرغم من الظهور في البداية لدعم المتظاهرين المناهضين للأسد، فإن الحكومات الغربية، التي سئمت صراعات الشرق الأوسط، ولم يعد لديهم الرغبة في المشاركة، حافظت على مسافة بينها، تاركة فراغاً تدخّلت فيه “داعش” لملئه في البداية في عام 2013 ثم روسيا في عام 2015.
لقد كان تقاعُسهم عن العمل هدية لروسيا، مما شجّع بوتين على متابعة أهدافه في أوكرانيا.
لقد فهم بوتين منذ البداية كيفية ضمان استفادة روسيا من الصراع. فقام بتوسيع القاعدة البحرية الروسية في طرطوس وإنشاء قاعدة جوية في حميميم بالقرب من اللاذقية، مَادّاً عقد إيجار الدولة الروسية لتشغيلها لمدة 49 عاماً. تمّ إنشاء قرية استيراد وتصدير روسية في ميناء اللاذقية بعد عام 2015 والتي عرضت المعدات العسكرية الروسية. كما تفاخر بوتين باختبار أكثر من 320 نظام سلاح في سورية، بينما اكتسب 85٪ من قادة الجيش الروسي خبرة قتالية في سورية. وقد تمّ تعيين الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، وهو أقسى الجنرالات الروس وأكثرهم كفاءة، لتولّي العمليات في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا.
لم يكن بناء الدولة ولا إعادة الإعمار على جدول الأعمال الروسي في سورية. على العكس من ذلك، كان الكرملين راضياً عن وجود دولة عميلة مستقرة بما يكفي لحماية مصالح روسيا، ولكنها ليست قوية لدرجة أنها لم تَعُدْ بحاجة إلى حماية موسكو. من المحتمل أن يكون الأمر نفسه صحيحاً في أوكرانيا، حيث تنفق روسيا ما يكفي من المال فقط في المجالات التي تعتبرها إستراتيجية، لكنها تتجنّب الاستثمار واسع النطاق الذي قد يسبب لها إعاقة، كما حدث في أفغانستان. على عكس الحكومات الغربية التي تطلب نهايات لطيفة وإعادة قواتها إلى الوطن، أظهرت روسيا في سورية أنها مرتاحة للصراع المنخفض المستوى الذي طال أمده، وغالباً ما تستخدم المرتزقة كوقود لحروبها. في أوكرانيا، يُقال إن الجنود السوريين المتمرسين في القتال يتم تجنيدهم بخمسة وعشرين ضِعْفاً لراتبهم السوري للقتال في صفوف القوات الروسية. وقد نشرت شبكة Zvezda News الروسية، المملوكة لوزارة الدفاع الروسية، مقطع فيديو مؤخراً يظهر فيه العميد سهيل الحسن قائد الفرقة 25 النخبة المدعومة من روسيا من قوات المهمات الخاصة، وهو يشارك في تدريبات على عمليات الإنزال الجوي في شمال سورية. من الواضح أن الروس هم مَن يتولون زمام الأمور، فيما تمّ إجراء مقابلات مع الجنود السوريين بعد ذلك، وهم يمدحون التجربة ويشيدون بمدربيهم الروس. وبالمثل، تُظهر وسائل الإعلام الروسية مقابلات مبهجة مع جنود سوريين يُزعم أنهم يصطفّون في طوابير للقتال من أجل روسيا في أوكرانيا، في حين أن وسائل الإعلام الغربية تتحدث عن إكراه بين المجندين السوريين، الذين يعترفون بمقتل 90٪ منهم.
اليوم سورية دولة دمية، حيث تسيطر روسيا على الأمن والدفاع، بينما تتولى إيران الملف الديني والثقافي. وقد لخّص رجل أعمال من حلب الموقف جيداً، ووصف بشار بأنه “رجل ذو ساقين مزيفتين، روسية وأخرى إيرانية، يقفز من ساق إلى أخرى لأن الأرض التي يقف عليها شديدة الحرارة”.
أما بالنسبة لذروة الدعاية الروسية، فقد كانت في تدمر في 5 أيار/ مايو 2016. فمع العلم أن العالم كان مفتوناً بمصير أكثر المواقع القديمة شهرة في سورية، مدينة تجارية سحرية في واحة صحراوية سيطر عليها “داعش” لأول مرة في عام 2015، قام بوتين بالمسارعة للوصول إلى هناك ليعلن عن أوركسترا روسية من موسكو، بقيادة قائدها المفضل، لإقامة حفل نصر في المسرح الروماني بعد أن ساعدت القوات الروسية في استعادتها من “داعش”. ولتتويج كل ذلك بإعلان نصر “مُظفّر”، وبينما كانت دول العالم تراقب، ظهر بوتين عَبْر رابط الفيديو على مسرح تدمر ليُقدّم نفسه على أنه “مُنقذ سورية”، الزعيم الدولي الوحيد الذي يحارب الإرهاب حقاً.
وقد حصل على رصيد كبير، فلقد كانت تلك هي اللحظة التي انتقل فيها من مسرح تدمر إلى المسرح العالمي، وتحقّق حلمه، وأصبح لاعباً عالمياً أخيراً.
تعود العلاقات السوفياتية مع سورية إلى السبعينيات عندما كان الاتحاد السوفياتي الشريك الاقتصادي الرئيسي لسورية وأحد أقوى حلفائها السياسيين والعسكريين. وقد قال نائب رئيس النظام السوري حافظ الأسد منذ فترة طويلة 1984-2005، عبد الحليم خدّام، في مقابلة من المنفى في باريس: “عليكم أن تفهموا أنه، في مرحلة ما، كان نصف السكان السوريين عملياً يعملون لدى الشرطة السرّية. عليكم أن تتذكّروا أن نظامهم تمّ تشكيله من قبل السوفيات. هذا هو السبب في أنهم كانوا أقوياء للغاية.
وسرعان ما أصبحت أجهزة المخابرات العامل الرئيسي في الحفاظ على النظام فقد كان النموذج الذي يحتذيه النظام هو جهازَيْ الكي بي جي أو شتازي. كان المُخبرون في كل مكان. وقد ذهب آلاف السوريين إلى روسيا للتدريب والدراسة وتعلّموا اللغة الروسية وتزوّجوا من الروس”.
لقد تعلّم بوتين الكثير من قائمة العمل الخاصة به في سورية، وهي تكتيكات أتقنها على مدار السنوات التي كان فيها له يد طليقة في البلاد. فبعد انتهاء القتال في أوكرانيا، ومع تحوّل العديد من المدن إلى مبانٍ خالية من القذائف، نتوقع نفس التكتيكات المُستخدمة في سورية، حيث صادر النظام جميع الممتلكات من الأشخاص الذين اعتبرهم “إرهابيين”، باستخدام قوانين جديدة على الأراضي التي اتّخذها لدعم أجندات النظام وخلق الحقائق على الأرض، وهي طريقة خبيثة لكسب الإيرادات مع تجنُّب العقوبات.
اليوم، ومن المُفارَقات، لم يَعُدْ بإمكاني مشاهدة قناة RT على Freeview أو Sky أو غيرها من القنوات الإعلامية الغربية؛ لأنه بعد أيام فقط من غزو روسيا لأوكرانيا، تمّ إيقاف البثّ عَبْر أوروبا والمملكة المتحدة، واعتُبر “غير لائق للحصول على ترخيص”. لو تمّ حشد هذا الإجماع الغربي المُنسّق ضد التضليل الروسي في سورية، مما يقدم تحدِّياً لرواية النظامين الروسي والسوري بأنه كان دائماً “يقاتل الإرهابيين”، لكانت الحرب السورية، في رأيي، قد انتهت الآن، بدلاً من الدخول في عامها الثاني عشر. آمُل ألا تشارك حرب أوكرانيا هذا المصير على الأقل.