المصدر: واشنطن بوست (تحليل)
ترجمة: عبد الحميد فحام
عندما أعلنت إدارة بايدن عن الحزمة الأولى من العقوبات المالية التي تستهدف روسيا الأسبوع الماضي بسبب غزوها لأوكرانيا، وصفتها بأنها إجراءات “غير مسبوقة”. وفي الأيام التي تلت الإعلان الأولي، زادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الضغط على روسيا بشكل كبير، ووسّعت نطاق العقوبات وجلب شركاء إضافيين لتكثيف الضغط متعدد الأطراف.
إن السرعة التي تم بها ترتيب مجموعة التدابير الحالية مثيرة للإعجاب. إن مثل تلك التدابير تُلحِق أضراراً حقيقية بالاقتصاد الروسي بالفعل. والعقوبات الأكثر تكلفة هي التي تستهدف البنك المركزي الروسي.
لكن وصف العقوبات بأنها غير مسبوقة هي عبارة عن مُبالَغة إذ إن نطاق الحزمة الأولية، رغم شدته، لم يرقَ إلى مستوى العقوبات التي سبق فرضها على دول مثل إيران وفنزويلا.
ويمكن للولايات المتحدة وحلفائها ممارسة المزيد من الضغوط الاقتصادية باستمرار.
حزمة العقوبات الروسية قاسية
في البداية، استهدفت العقوبات الغربية مؤسستين ماليتين روسيتين رئيسيتين وعدداً من الأوليغارشية (الطبقة الحاكمة في روسيا) المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما تمّ منع هذه البنوك والأفراد على الفور من التبادُلات المالية الخارجية مع أي بنك لديه ارتباطات أمريكية أو أوروبية.
في حين كان مستوى تعاوُن الولايات المتحدة مع أوروبا ملحوظاً، كانت هذه الإجراءات تتماشى مع الإجراءات السابقة التي استهدفت البنوك والأقلية الحاكمة في روسيا.
ومع ذلك، وفي غضون أيام، زادت الولايات المتحدة وحلفاؤها من حِدّة الإجراءات. وفي غضون أسبوع، قاموا بفرض عقوبات على بوتين نفسه. وقد تمّ قطع بعض البنوك الروسية عن نظام سويفت (SWIFT)، وهو نظام المُراسَلة الذي تتواصل من خلاله البنوك لتحويل الأموال في جميع أنحاء العالم. هذا الأسبوع، أضافت الولايات المتحدة البنك المركزي الروسي (CBR) إلى القائمة المُستهدَفة.
وعُدَّ وضع (CBR) في القائمة السوداء بمثابة العقوبة الأكثر أهمية التي اتخذها الغرب حتى الآن. فنادراً ما تفرض الولايات المتحدة عقوبات على بنك مركزي أجنبي، على الرغم من أن ذلك ليس أمراً غير مسبوق. وتضع وزارة الخزانة الأمريكية في القائمة السوداء، أو “المُصنَّفين”، الآلاف من الأفراد والكيانات ولكن القليل منهم فقط هم سلطات بنكيّة أو نقديّة – وهؤلاء موجودون في قائمة من الدول المنبوذة: إيران وليبيا وكوريا الشمالية وسورية وفنزويلا.
لذلك، فإن استهداف (CBR) يؤدي إلى تصعيد خطير للضغط الاقتصادي على الروس. ولقد انضمّ كل من الاتحاد الأوروبي واليابان وحتى سويسرا المحايدة تاريخياً إلى عزل البنك المركزي الروسي، مما يزيد من حدة آلام موسكو.
لماذا يُعتبر إعاقة البنك المركزي الروسي أمراً مهماً
إن فرض عقوبات على تحرُّك البنك المركزي له نتيجتان رئيسيتان. أولاً، لا يستطيع البنك الوصول إلى مئات المليارات من الدولارات من احتياطيات النقد الأجنبي، والتي يحتفظ بها في حسابات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.
عادةً إذا كان المستثمرون يبيعون الأصول الروسية ويبادلون الروبل بالدولار، يمكن لـ (CBR) الاستفادة من احتياطاته من العملات الأجنبية، باستخدام الدولار واليورو الذي وفره لشراء الروبل الذي أغرقه المستثمرون به. يمكن لمثل هذه الخطوة أن تمنع حدوث انخفاض كبير في قيمة الروبل، مما قد يؤدي على الأرجح إلى حالة من الذعر المالي في روسيا.
لكن العقوبات تعني تجميد معظم احتياطيات روسيا، مما يجعلها عديمة الفائدة للدفاع عن العملة. وقد خسر الروبل الروسي ثلث قيمته يوم الإثنين، في غياب دعم البنك المركزي الروسي (CBR).
ثانياً، تمنع عقوبات البنك المركزي بشكل فعّال البنك المركزي من التعامل مع أي كيان أو فرد في البلدان التي تفرض عقوبات. حسناً، لماذا هذا أمر مهم؟ حوالَيْ 20% من الاحتياطيات الروسية مُخزّنة على شكل ذهب، أي ما يعادل حوالَيْ 130 مليار دولار. ويُعتقد أن الكثير من هذا موجود في خزائن روسيَّة ولا يمكن تجميد هذه الأصول بإجراءات العقوبات.
في الظروف العادية، يمكن لروسيا بيع هذه السبائك في أسواق الذهب العالمية بالعملة الصعبة، والتي يمكن أن تستخدمها بعد ذلك لدعم الروبل. أما الآن، فستواجه روسيا صعوبة أكبر في العثور على مشترين لذهبها.
والأهم من ذلك، أن أي دولارات يكتسبها البنك المركزي لن تكون مُجدِية للتدخل في النقد الأجنبي لأنه لا يستطيع التعامل مع البنوك والشركات في البلدان التي تفرض عقوبات. باختصار، حتى الأصول المُحتفَظ بها على الأراضي الروسية لا يمكن استخدامها للدفاع عن العملة الروسية.
لكن العقوبات يمكن أن تذهب أبعد من ذلك بكثير
على الرغم من شدّة هذه العقوبات، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى التدابير السابقة المستخدمة لاستهداف الأنظمة الأخرى، من ناحيتين رئيسيتين:
أولاً: حتى الآن، لم تلجأ الولايات المتحدة إلى “عقوبات ثانوية” كتلك التي يجري استخدامها بشكل كبير ضد إيران. فعند فرض العقوبات الثانوية، فإن أي بنك يرغب في مواصلة ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة يجب أن يمتنع عن إجراء الأعمال نيابة عن الكيانات الخاضعة للعقوبات، ويجب أيضاً إنهاء جميع العلاقات التجارية مع المؤسسات المالية التابعة لجهات خارجية والتي تمارس الأعمال التجارية نيابة عن الكيان المُستهدَف.
بعبارة أخرى إن أي بنك في أي مكان في العالم يقوم بأعمال مالية -نيابة عن القلّة الروسية المستهدفة والبنوك والبنك المركزي الروسي- سيجد نفسه على الفور مُدرَجاً في القائمة السوداء من قِبل وزارة الخزانة الأمريكية أيضاً.
العقوبات الثانوية ستجبر البنوك في دول مثل الصين، التي لم تنضمّ إلى جهود العقوبات المتعددة الأطراف، على الاختيار بين روسيا أو الولايات المتحدة. نظراً لأن النظام المالي الأمريكي أساسي للأعمال التجارية العالمية، فمن المرجَّح أن تتراجع معظم البنوك الصينية عن تقديم الخدمات المالية للشركاء الروس، كما فعلوا مع شركائهم الإيرانيين في الماضي.
ثانياً: يمكن للولايات المتحدة وشركائها إنهاء الاستثناءات في مجال الطاقة في العقوبات الحالية. ماذا يعني ذلك؟ في الوقت الحالي، يُسمَح باستمرار معظم مدفوعات الطاقة الروسية. ويمكن للعالم أن يستمر في شراء الغاز والنفط الروسي، مما يسمح لروسيا بكسب اليورو والدولار في المقابل. في حين أن عقوبات البنك المركزي الروسي تعني أنه لا يمكن استخدام هذه الأرباح لدعم الروبل، لكنهم يمكن أن يدفعوا ثمن الواردات. وهذا شريان حياة حيوي للاقتصاد الروسي في الواقع.
لنقارن هذا بكيفية تعامُل الولايات المتحدة مع نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا. ففي عام 2019، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة والمسؤولة عن غالبية عائدات الصادرات الفنزويلية.
إذا اختاروا ذلك، يمكن للولايات المتحدة وشركائها إضافة مدفوعات النفط إلى عقوباتهم، ومعاملة عمالقة الطاقة الروسية مثل روزنيفتو غازبروم كما تعاملوا مع شركة فنزويلا بترول (بي. دي. في. إس. أ. /PDVSA). في حين أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، إلا أنه سيكون له تأثير أكثر تدميراً على الاقتصاد الروسي.
وبعبارة أخرى، إذا واصل بوتين التصعيد في أوكرانيا، فقد يردّ الغرب بتصعيد العقوبات بشكل كبير. وفي حالة حدوث ذلك، سيكون من العدل وصف الإجراءات بأنها “غير مسبوقة”.